إسطنبول | أُعلن في تركيا، قبل أيام، العثور على مقبرة جماعية في منطقة دارغيشيت في مدينة ماردين جنوب شرق البلد، تضمّ عظام 11 شخصاً، أغلب الظن أنهم أكراد، بينهم عظام الشاب المختطف داوود ألتينكايانك، الذي قضى تحت تعذيب عناصر قوى الأمن وهو في سنّ الـ 13، وذلك في سنوات التسعينيات السوداء التي عرفت ذروة المعارك المسلحة مع حزب العمال الكردستاني، وما نتج منها من جرائم موصوفة شبه حكومية وتهجير واضطهاد وخطف وتعذيب بحق الأكراد. وقد وثّقت «جمعية حقوق الإنسان في تركيا» وجود 224 مقبرة جماعية تضم رفات 3058 كرديّاً توفّوا على أيدي رجال الأمن الأتراك في تلك المرحلة، بحجة الانتماء من قريب أو بعيد إلى حزب العمال الكردستاني، أو ببساطة بتهمة أنهم أكراد. 3058 هيكلاً عظمياً لا يزال ذووهم ينتظرون اعتذار الدولة وتسلّم رفاتهم لدفنهم بطريقة لائقة في مقابر «طبيعية»، ليست جماعية سرية. ومن بين هؤلاء عائلة الفتى داوود ألتينكايانك الذي يرجَّح أن تكون رفاته من بين الهياكل العظمية الـ 11 التي تم العثور عليها في ماردين. وقصّة داوود ألتينكايانك (مواليد 1982) وعائلته تعيد فتح ملف الآلام الكردية التي كانت مصدراً لروايات وأفلام مقتبسة عن قصص حقيقية، قساوتها تجعلها أقرب إلى الخيال. وقد روت والدة داوود، حياة ألتينكايانك، مأساة ابنها قبل عامين لكاتبة هذه السطور في إطار حملة لفتح جميع المقابر الجماعية في تركيا. وتروي حياة أنها رأت ابنها مرة واحدة قبل قتله، وذلك في مقر كتيبة الجيش في دارغيشيت، وذلك في تشرين الثاني 1995، حين وجدته مع 5 أشخاص في وضعية الشنق. وعندما رأى داوود والدته، قال لها مخنوقاً «أمي أريد ماءً»، وبالطبع مُنعَت من الاقتراب منه. هكذا، لا تزال والدته حتى اليوم تستذكر باكيةً كيف أنها عجزت عن «إعطاء الماء لحبيبها داوود».
وقد تمكن داوود من ارتياد المدرسة لعامَين فقط في قريته، ذلك أنّ هذه القرية كانت من بين القرى الـ 4000 التي أخلتها قوات الأمن التركية في تسعينيات القرن الماضي في حربها ضد مقاتلي عبد الله أوجلان. وتشرح حياة كيف أنه تم تهجيرها وأطفالها الأربعة، وأكبرهم كان داوود، إلى دارغيشيت. ويقول والد داوود، عبد العزيز، «بالكاد تمكنّا من تأمين غذائنا، وبعنا الماشية التي كنا نعتاش منها بربع سعرها، وأنا عملتُ في ورشة بناء في إسطنبول، أما داوود فكان يعمل في رعاية الماشية». أما خطف داوود فقد حصل بعدما قُتل أستاذ مدرسة ورجل أعمال في دارغيشيت. وعن تلك الحادثة، يشرح والد داوود ما حصل: «لا نعرف مَن قتل هذين الرجلين، الدولة أم حزب العمال، وكانت والدة داوود في منزلنا فأتى رجال الأمن يسألونها عن ابنها داوود، وأجابتهم بأنه ليس في المنزل، فاقتادوها معهم رغم أنها كانت قد أنجبت طفلاً قبل 15 يوماً فقط». ويفصّل والد داوود كيف عُذّبت زوجته على أيدي رجال الأمن، اغتصاباً وضرباً ... وفي غضون ذلك، تمّ اعتقال داوود في منزل ابن عمه، وأحضر إلى غرفة التعذيب، حيث اعتُقلت والدته، وسُمح لها بمشاهدة تعذيبه قبل أن يُطلق سراحها هي وإبقاء ابنها الذي لم تره من بعدها، وتستعدّ حالياً لتسلُّم رفاته. في تلك الأيّام، أُبلغَت عائلة داوود أن ابنها سينقل إلى ماردين تمهيداً للإفراج عنه، وهو ما لم يحصل، وجلّ ما تطالب به العائلة اليوم هو «تسلُّم عظامه لدفنه بطريقة محترمة لنكون قادرين على زيارته دورياً، ونقول هنا يرقد ولدنا»، على حد تعبير عبد العزيز ألتينكايانك. حالة عائلة ألتينكايانك تعيشها أيضاً مئات العائلات الكردية التي لا تطالب حتى بمعاقبة قتلَة أولادها، وتنحصر مطالبها بتسلُّم رفات مفقوديهم.
ويعترف رئيس جمعية حقوق الإنسان، أوزتورك تورك دوغان، في حديث مع «الأخبار»، بأنه رغم جميع الحملات التي نُظِّمَت للانتهاء من ملف المقابر الجماعية والمفقودين من حقبة الحرب مع حزب العمال الكردستاني، فإنّ «بعض المقابر فقط تمّ الكشف عنها». هكذا، فإنّ تركيا «التي تجاهر بديموقراطيتها لا تُظهر أي نية سياسية لطي الصفحة السوداء للمقابر الجماعية». ويشدّد تورك دوغان على أنه «من دون مواجهة الدولة لتاريخها، لا يمكننا إرساء شعور بالعدالة والديموقراطية، وهو ما لا يزال سارياً عندنا». ويختم بأنه «لا مجال إلا لخريطة طريق واحدة لإنهاء هذا الملف: على الدولة أن تفتح جميع المقابر الجماعية، والكشف عن هوية ضحاياها وتعويض ذويهم والاعتذار رسمياً منهم، وإن كانت الدولة لا تريد معاقبة مرتكبي جرائمها، فيمكنها إنشاء لجنة تحقيق للتصالح مع الماضي، مثلما حصل في جنوب أفريقيا (بعد انتهاء حقبة التمييز العنصري). عندها فقط يمكن إصدار عفو عام بعد الكشف عن المجرمين، وهذا ما لا بد من فعله كمنطلق لحل المسألة الكردية».
ويدرك العاملون على ملف طيّ صفحة المقابر الجماعية الكردية، أن ذوي الضحايا ليسوا اليوم من المصرّين على معاقبة مرتكبي الجرائم بحق أولادهم، ومن بين هؤلاء سرتاش أوزغن، الذي اختطف والده وهو في سنّ السبعين ولم يعد إلى منزله قطّ. وفي كانون الثاني الماضي، تمّ العثور على مقبرة جماعية في دياربكر قرب مقر للأمن، تحتوي على رفات 34 شخصاً، يعتقد أن والد سرتاش، فكرت أوزغن من بينهم.
ويروي النائب الحالي عن حزب الشعب المعارِض، المحامي السابق عن فكرت، سزغين تانريكولو، لـ«الأخبار»، كيف أنه كان متأكداً من وجود موكّله في مركز الشرطة، حيث تمّ العثور على المقبرة الجماعية، وكيف أنّ توسّلاته للمدعي العام في حينها بمقابلة موكله لم تلقَ نتيجة. وقصة فكرت لا تقلّ مأسوية عن قصة داوود. فقد اختطف فكرت في شباط 1997 على أيدي رجال الأمن من العيادة التي كان يتلقّى فيها العلاج من أمراضه المزمنة، بتهمة انتماء ابنه إلى حزب العمال الكردستاني، وهو الابن الذي ما لبث أن توفي بعد خطف والده، علماً بأن شقيقه الآخر، سرتاش، كان مسجوناً أيضاً بالتهمة نفسها، وشقيقهما الآخر عضو في «الكردستاني» أيضاً، وتوفي في المعارك. وفي تلك الأيام، وصلت مذكرة إلى منزل فكرت مفادها أنّه إما أن يسلّم أبناءه إلى الدولة، أو يلقى القبض على الوالد، وهو ما حصل بالفعل، إذ إن الابن الباقي على قيد الحياة، سرتاش، شبه واثق من أن والده توفي نتيجة التعذيب، وخصوصاً أنه اعتُقل وهو في سنّ السبعين، وكان يعاني أصلاً من أمراض كثيرة.
ويختم سرتاش بأن جلّ ما يطلبه اليوم هو «تسلُّم رفات والده، ولسنا مصرّين على رؤية من قتله يعاقَب، بشرط الكشف عن المجرمين للعموم، فقط للتأكد من أن مثل تلك الممارسات لن تتكرر مجدداً. قبل كل شيء، نريد المشاركة في بناء مستقبل واحد غير مبنيّ على التمييز بحسب الهوية الثقافية والإثنية».