لم تنجح التظاهرات العارمة التي احتشدت ليلة أول من أمس، أمام مقر البرلمان اليوناني، في ثني «نواب الشعب» عن التصديق على برنامج جديد من الإجراءات التقشفية التي فُرضت على الحكومة اليونانية كشرط مسبق لصرف الحزمة الثانية من المساعدات الأوروبية المقدّرة بـ130 مليار يورو لأثينا. ودعا رئيس الحكومة، لوكاس باباديموس، النواب إلى «تحمّل مسؤولياتهم القومية»، ملوّحاً بأن «عدم التصديق على هذه الخطة التقشفية سيكون معناه إشهار إفلاس البلاد». وحظي البرنامج التقشفي الجديد بدعم قيادتي الحزبين الرئيسيين في البلاد، «الحزب الاشتراكي» و«الديموقراطية الجديدة» اليميني، المشاركين في الائتلاف الحكومي الحالي. لكن معارضة غالبية الرأي العام اليوناني لهذه السياسات ذات العواقب الاجتماعية القاسية، دفعت بـ41 نائباً من الحزبين الرئيسيين إلى الانضمام إلى 74 نائباً معارضاً صوّتوا ضد المشروع، إذ لم ينل تأييد سوى 199 صوتاً من أصل 298 نائباً. وكان أكثر من 80 ألفاً من المعارضين للخطة التقشفية قد تجمعوا في محيط ساحة «سينتاغما»، المحاذية لمقر البرلمان، في وسط أثينا. وتفجّرت مواجهات عنيفة أثناء التصديق على الخطة التقشفية، تخللها إحراق للعديد من المباني العمومية ومحال السلع الفخمة. وعكست هذه الأحداث استياءً شعبياً متزايداً حيال هذه الإجراءات التقشفية الجديدة الهادفة إلى خفض 3.3 مليارات يورو من الموازنة العمومية اليونانية للعام الجاري، من خلال خفض الرواتب والمنح التقاعدية وتسريح مزيد من موظفي القطاع الحكومي.
وقد وضعت ضغوط المفوضية الأوروبية وصندوق النقد الدولي الحكومة اليونانية في موقف حرج، إذ إنها قبلت بسنّ المزيد من سياسات التقشف، رغم النقمة الشعبية التي تثيرها، وتشكيك العديد من خبراء الاقتصاد في نجاعتها في إخراج البلاد من أزمة الدين العام التي تخنق الاقتصاد. تجدر الإشارة إلى أن المديونية اليونانية، المقدّرة بـ350 مليار يورو، تعادل 160 في المئة من الدخل القومي حالياً. ويهدف برنامج المساعدات الأوروبية إلى خفضها بنحو 100 مليار، لتنزل تدريجاً تحت عتبة الـ120 في المئة من الدخل القومي.
ويرى خبراء الاقتصاد أن ذلك سيضخ في الأداء الحكومي اليوناني جرعة أوكسيجين مؤقتة، ستكون كفيلة بأن تحدّ من انعكاسات الأزمة اليونانية على استقرار منطقة اليورو، لكنها لن تكفي على الإطلاق لمعالجة خلل الاقتصاد اليوناني.
وللتدليل على عدم فاعلية إجراءات التقشف في معالجة أزمة الدين العام، يقول الخبير الاقتصادي الفرنسي جيزو كاستيلو، الذي أشرف أخيراً على إعداد تقرير عن الاقتصاد اليوناني، لحساب مجموعة UBS المصرفية، «لقد أجرينا عملية حسابية بسيطة لمعرفة كيف ستكون حال الاقتصاد اليوناني لو جرى إلغاء كامل الديون العمومية، وأُعفيت الحكومة من تسديدها، وتبيّن لنا أن الاقتصاد اليوناني سيبقى يعاني من عجز يقارب 6 في المئة من الدخل القومي، أي ضعف ما تقتضيه الإجراءات الأوروبية المتعلقة باستقرار منطقة اليورو». وخلص كاستيلو إلى أن هذه النتيجة تكشف أن الأزمة اليونانية «لا يمكن معالجتها عن طريق إجراءات التقشف، لأنها لا تعدو أن تكون مهدئات آنية، بل يجب منح حكومة أثينا وغيرها من حكومات الاتحاد التي تعاني من تبعات أزمة الدين العام، دعماً أوروبياً لتسطير سياسة استثمارية قوية من أجل إعادة تحريك الماكينة الاقتصادية». لكن رغم كل هذه المعطيات، لم تترك ضغوط المفوضية الأوروبية وصندوق النقد الدولي أي خيار آخر للحكومة اليونانية سوى سنّ إجراءات تقشف جديدة، وخصوصاً أن اليونان تواجه استحقاقاً مالياً مهماً يتطلب منها تسديد 14.5 مليار يورو من خدمات ديونها قبل 20 آذار المقبل. أمر لن تتمكن حكومة أثينا من أن تفي به، ما لم تتلقَّ الحزمة الثانية من المساعدات الأوروبية. وفي حين تستعدي الحكومة اليونانية غالبية رأيها العام المعارض للمزيد من التقشف، فإن «الابتزاز» الأوروبي تواصل حتى بعد تصديق البرلمان على الإجراءات الجديدة المثيرة للجدل. وفي مقابل الترحيب الأوروبي الرسمي، تواصلت الضغوط في الكواليس، مع مطالبة المفوضية الأوروبية الحكومة اليونانية بتعهدات جديدة تتمثل في إعداد «وثيقة إجماع» تتعهد بموجبها كل الأحزاب الممثلة في البرلمان اليوناني بألا تعيد النظر في إجراءات التقشف التي جرى التصديق عليها، وذلك مهما كانت النتائج التي ستسفر عنها الانتخابات التشريعية اليونانية التي ستجري في نيسان المقبل.
وتحت الضغط الألماني المتزايد، طالب رئيس «اليوروغروب»، جان كلود يونكر، الحكومة اليونانية بأن تنجز «وثيقة الإجماع» هذه قبل التئام اجتماع وزراء مال الاتحاد الأوروبي غداً، لبتّ قضية صرف أو حجب الحزمة الثانية من المساعدات الأوروبية لأثينا. كلام أثار انتقادات سياسية تجاوزت حدود اليونان، بما أن هذه الضغوط تعطي الانطباع بأن الاتحاد الأوروبي يريد مصادرة «الإرادة الشعبية»، وهو ما يخشى البعض أن يمتد إلى دول أوروبية أخرى على شكل إملاءات سياسية مماثلة، وبالتالي التأسيس لـ«ديكتاتورية تكنوقراط بروكسل»، بحسب تعبير المرشح اليساري للرئاسة الفرنسية، جان لوك ميلانشون.
وعلى الرغم من أنّ الأوساط الليبرالية تحاول الإيحاء بعدم وجود أي بديل من سياسيات التقشف لمعالجة الأزمات المالية والاقتصادية، تطرح التيارات المناهضة للعولمة بديلاً ملموساً يتمثل في محاربة الفساد المالي. وفي حالة اليونان مثلاً، بيّنت تحقيقات منظمة محاربة الفساد «ترانسبارنسي أنترناشينل» أن مقدار أموال التهرّب الضريبي اليونانية التي جرى تهريبها إلى المصارف السويسرية، تعادل 278 مليار يورو، أي إن استردادها يكفي لتغطية 98 في المئة من الدين العام في البلاد. لكن ضغوط الأوساط المالية تحول دون اتخاذ المفوضية الأوروبية إجراءات اتحادية كفيلة باسترداد أموال التهرّب الضريبي، مع أن ذلك من شأنه أن يغنيها عن المساعدات الاتحادية التي تُصرف للدول المتضررة، والتي تُقتطع من أموال دافعي الضرائب في دول الاتحاد.