إسطنبول | صفعة جديدة وجّهها القضاء التركي، أول من أمس، للمحاولات الهادفة الى مصالحة الجمهورية مع ضحاياها؛ فقد قررت محكمة إسطنبول الجنائية العليا أن جريمة اغتيال المفكر التركي ـــــ الأرمني، هرانت دينك، هي جريمة فردية لم تخطط لها أو تنفذها مجموعة إرهابية، رغم أنّ المؤشرات القانونية كانت كلها تجمع على أن قتل دينك عام 2007 تتحمل مسؤوليته عصابات «إرغينيكون» التي تأسّست برعاية أجهزة الدولة، ونفّذت العمليات القذرة بحق «أعداء» الجمهورية من إسلاميين وأكراد وشيوعيين وأرمن. وكان دينك، الصحافي الليبرالي ذو الجذور الأرمنية، قد قتل في 19 كانون الثاني 2007 على يد قاصر ينتمي إلى اليمين التركي المتطرف، يُدعى ياسين حايال، وذلك في وضح النهار بإسطنبول. وقد حكمت المحكمة على المتهم بالسجن مدى الحياة، بينما برّأت المتهم بالتخطيط للعملية إرهان تونسل. وقد صدر الحكم بعد 5 سنوات من بدء المحكمة، وقد أغفل عدداً من المعطيات، لتكون النتيجة غضباً عارماً، لا في أوساط عائلة دينك ومحاميه وأحبائه الكثر فحسب، بل عند جميع الدوائر الليبرالية واليسارية المعادية للتعصُّب التركي القومي. وقد رأت محامية دينك، فتحية شتّين، أنّ قرار المحكمة باعتبار الجريمة لأسباب فردية غير متصلة بعصابات إرهابية، هو «استهزاء بنا جميعاً، لأنّ الجهات الحقيقية التي تقف خلف اغتيال دينك هي قوى أكبر من منظمات إرغينيكون حتى». واعتبرت شتّين أنّ قرار المحكمة يعني أنّ الدولة التركية تصرّ على الدفاع عن «تقاليد الجريمة السياسية، وخصوصاً حين يتعلق الأمر بالتمييز بين المواطنين الأتراك الذين يصبحون أعداء للجمهورية»، في إشارة إلى الجذور الأرمنية لهرانت دينك.ويشدد فريق المحامين عن دينك على أن اغتياله عام 2007 جاء ضمن إطار مخطط لعصابات «إرغينيكون»، إضافة إلى قتل رجل دين مسيحي ايطالي في تركيا عام 2006 و3 رجال دين مسيحيين آخرين في مدينة مالاطيا التركية عام 2007، وذلك لاستهداف الأقليات الدينية في تركيا لإشاعة الفوضى اللازمة للتمهيد لتنفيذ انقلاب عسكري ضد حكومة «العدالة والتنمية» التي ستبدو بنظر العالم والأتراك أنها تستهدف الأقليات غير المسيحية لأسلمة تركيا، أو على الأقل ستبدو غير قادرة على حمايتهم.
وذكّر محامو دينك كيف أنه عندما كان الصحافي والكاتب التركي ـــــ الأرمني يحاكَم أمام القضاء لمخالفته بنود المادة 301 من قانون العقوبات التي تحظر «شتم القومية التركية»، كان البعض من المسؤولين في «إرغينيكون»، ممن باتوا في السجن حالياً، يعتدون عليه ويشتمونه داخل قاعة المحكمة حتى. أكثر من ذلك، فإنّ المدعي العام التركي نفسه اعترف، العام الماضي، بأنّ من خطط ونفذ اغتيال دينك هي عصابات «إرغينيكون». ودلّت كل المعطيات التي توزعت على الجلسات الـ 25 لمحاكمة قتلة دينك على ارتباط عصابة كبيرة بالعملية، إلا أنّ اللافت كان أنّ أصحاب 5 أرقام هاتفية أجروا اتصالات متعلقة بعملية الاغتيال، اختفوا عن الوجود نهائياً، إضافة إلى أن الصور التي التقطتها كاميرات المتاجر القريبة من ساحة الجريمة اختفت فجأة، رغم أنها تظهر الكثير من وجوه المتورطين بالعملية الإجرامية. أكثر من ذلك، فإنّ الشرطة كانت قادرة على حماية دينك من الاغتيال لأنها أبلغت بالمخطط الإجرامي قبل أشهر من الجريمة. وإرهان تونسل، المتهم بالتورط في العملية، والذي قررت المحكمة تبرئته من التهم، هو مخبر سابق لمصلحة الشرطة التركية، غير أنّ تسجيلات اعترافاته لدى أقسام الشرطة أخفيت عن المحكمة بحجة أنها «أسرار دولة»، علماً بأن آخر مرافعة دفاع أدلى بها تونسل شددت على أن جريمة اغتيال دينك كانت من تخطيط وتنفيذ عصابات «إرغينيكون».
وقد انضم وزراء في حكومة رجب طيب أردوغان إلى فريق غير الراضين عن الحكم القضائي؛ فقد أشار وزير العدل، سعد الله إرغين، إلى أن «القضية لم تُقفَل بعد»، بما أنها ستُحال إلى «محكمة التمييز العليا» لتصدر القرار النهائي غير الخاضع لأي طعن أو اعتراض. وفي السياق، أعرب وزير الثقافة، إرتوغرول غوناي، عن خيبة أمله من قرار المحكمة. إلا أن هذه التصريحات الحكومية لم تكن كافية بنظر محامي دينك وأنصاره، الذين اتهموا الحكومة نفسها بعدم اعتماد الحزم الكافي في دفع التحقيق نحو الكشف عن الحقيقة الكاملة.
وفور صدور القرار، تظاهر «أصدقاء هرانت» خارج قاعة المحكمة تحت شعار «هرانت ضد الفاشية» و«مجرمو الدولة يجب محاكمتهم» و«كلنا أرمن»، على أن يتظاهروا اليوم في مسيرة كبيرة تتزامن مع الذكرى الخامسة للجريمة. لكن عدم الرضى لم ينحصر بأصدقاء دينك ورفاقه، إذ إن والد ياسين حايال، المحكوم بالسجن مدى الحياة، علّق على قرار المحكمة ساخراً بالقول إنه «لو كان المدعي العام (الرئيس الفرنسي نيكولا) ساركوزي، والقاضي هو (الرئيس الأرمني سيرج) سركيسيان، لما صدر القرار بهذه القسوة».