إسطنبول | سجّل مسلسل إعادة الجيش التركي إلى وضع يشبه شيئاً فشيئاً أوضاع بقية الجيوش في العالم، من حيث خضوعه لسلطة القضاء والمؤسسات السياسية، حلقة جديدة قبل أيام، وذلك من خلال تسجيل سابقة تاريخية تُرجمت بتوقيف رئيس الأركان الأسبق للجيش بين عامي 2008 و2010، إلكر باسبوغ، بتهمة الارتباط بمخططات عصابات إرغينيكون الساعية إلى الانقلاب على حكومة حزب «العدالة والتنمية». الحدث، من حيث إنه مرتبط بشخص أرفع ضابط في الجيش التركي، هو الأكبر من ناحية تحجيم الدور السياسي الخارج عن أي منطق أو قانون، الذي أدته المؤسسة العسكرية منذ تأسيس الجمهورية في عشرينيات القرن الماضي حتى عام 2008، حين بدأ مسلسل اقتلاع الأنياب السياسية «السامة» للجيش في كل ما هو خارج إطار مهماته العسكرية، وذلك تحديداً في عهد باسبوغ نفسه. ولأن الأمر هو بهذا الحجم، فإنّه شغل تركيا بكافة قطاعاتها منذ يوم الجمعة، حين قررت محكمة إسطنبول احتجاز باسبوغ الذي تقاعد العام الماضي من الجيش، لمقاضاته في تهمة «تأسيس وقيادة شبكة إرهابية» أطلقت، بحسب الاتهام الرسمي، حملة على الإنترنت تهدف إلى التجني على حزب رجب طيب أردوغان.
والمؤامرة التي يحاكم بها باسبوغ، أطلق عليها اسم «خطة مكافحة الرجعية»، وهو اسم الإسلاميين بالنسبة إلى جنرالات الجيش تاريخياً. وقامت الخطة التي أسسها وقادها باسبوغ على إنشاء عدد من المواقع على الإنترنت لتشويه سمعة الحكومة ورئيسها، إضافة إلى إحدى المجموعات القوية التي تساندها، وهي منظمات فتح الله غولن، الداعية الإسلامي التركي المعتدل الذي يعيش في الولايات المتحدة، والذي يدعم بأمواله الطائلة ومؤسساته التربوية والإعلامية الشديدة النفوذ التي تضم 5 ملايين عضو منتشرين في عشرات الدول، حكم «العدالة والتنمية» منذ 2002. ومن أهداف «خطة مكافحة الرجعية»، التي أسسها وقادها الجنرال باسبوغ، إسقاط المحاكمات المستمرة في قضايا عصابات «إرغينيكون»، وهي المنظمات الإجرامية التي اكتشف أمرها منذ 2008، وهي عبارة عن شبكات أسّسها الجيش وتضم المئات من أركان «العلمانية الكمالية» في مختلف القطاعات، وخصوصاً من أرفع ضباط الجيش، وهدفها القيام بالتصفيات والاغتيالات والانقلابات وكافة الجرائم التي يمكن تخيلها، بهدف التخلص من حكم «إسلاميي» تركيا الحاكمين منذ 2002، والمحافظة على «القيم العلمانية للجمهورية».
وقد أُوقف باسبوغ منذ يوم الجمعة بناءً على شهادة أحد أبرز الأسماء المتهمة بملف «إرغينيكون»، العقيد المعتقل حالياً، دورسون جيجيك، الضابط في القوات البحرية. وقد أثارت الهوية المذهبية العلوية لجيجيك، سجالاً واسع النطاق حين اعتُقل، وخصوصاً أن تقارير عدة أشارت إلى أن معظم ضباط سلاح البحرية المتهمين هم من العلويين المحسوبين على المعسكر الشرس في دفاعه عن القيم العلمانية بنسختها الكمالية. وقد أُوقف جيجيك في عهد رئاسة أركان باسبوغ، وذلك في 26 حزيران 2010. حينها، اكتفى باسبوغ بالتعليق على النبأ، قائلاً إن التهمة الموجهة إلى ضابطه «مجرد قصاصة من الورق». وقد تصرّف باسبوغ آنذاك بهدوء أثار عليه موجة انتقادات، إذ لم يُقم الدنيا بسبب اعتقال جيجيك، بل طالب القضاء المدني الذي تسلم ملف عسكري للمرة الأولى في تاريخ الجمهورية، بالكشف عن هوية من يقف خلف محاولة «تشويه سمعة الجيش وصورته». بعدها، ظهر أن جيجيك والعديد من الضباط المعتقلين على خلفية «إرغينيكون» اعترفوا بوضوح بأنهم تلقّوا أوامرهم بالعمل ضد الحكومة من باسبوغ شخصياً. بناءً على ذلك، استُدعي باسبوغ ليل الخميس الماضي ليُجري التحقيق معه طوال سبع ساعات المدعي العام لإسطنبول، قبل أن تقرر المحكمة إيداعه في سجن سيليفري، غرب المدينة المذكورة. وبحسب تلفزيون «أن تي في» التركي، نفى باسبوغ التهمة الموجهة إليه، ووصفها بأنه «تراجيدية ـــــ كوميدية».
وقال باسبوغ، تعليقاً على التهم: «إن سماعي هذا الكلام يجرح مشاعري كجنرال في الجيش أكمل واجباته تجاه الدولة بكل فخر. إن اتهام رئيس أركان الجيش التركي بتأليف منظمات إرهابية هو الجزاء الأكبر على الإطلاق الذي قد يوجه إلى حامل هذه الرتبة».
وفي تعليقه على هذا التطوُّر التاريخي، قال المعلّق السياسي في صحيفة «ستار»، محمد ألتان، لـ«الأخبار»، إن ما حصل «أمر مهم بالنسبة إلى الديموقراطية التركية، ولكنه غير كافٍ»، وذلك لعدة أسباب، بينها أن رئيس أركان الجيش لا يزال متحرراً من وصاية وزير الدفاع، إضافة إلى أن رئيس الحكومة لا يزال بحاجة إلى توقيع رئيس الأركان في تعيين رؤساء الجيوش التركية (البرية والجوية والبحرية). وبحسب ألتان، قبل تعديل هذه الوقائع الشاذة في علاقة السلطة السياسية بالمؤسسة العسكرية، لن يكتمل مسار ديموقراطية الدولة. وتتفق محللة الشؤون العسكرية في صحيفة «طرف»، التي حملت شرف أول من كشف عن خيوط عصابات إرغينيكون قبل 4 سنوات، لالي كمال، مع توصيف محمد ألتان، وتضيف أنها لن تستغرب إن رأت عدداً من الضباط الكبار يتقدمون باستقالاتهم على خلفية اعتقال باسبوغ، من دون أن تتوقع أن يؤدي ذلك إلى حالة عدم استقرار في البلاد.