طائرات أميركية أعطت الإحداثيّات... وتقارير عن «استفزاز» مقصودإسطنبول | من غير المتوقَّع أن تنتهي قريباً تداعيات المجزرة التي ارتكبها الجيش التركي بحق 35 مواطناً تركياً كردياً، بينهم 17 طفلاً، في غارات جوية على قرية تركية محاذية للحدود العراقية فجر الخميس الماضي، بحجة أن الطائرات التركية ظنّت أن الضحايا كانوا من مقاتلي حزب العمال الكردستاني، بينما اتضح أنهم مجرد مهرّبي بضائع ينشطون على الحدود التركية ـــــ العراقية. فقد خلصت تقارير بعض المنظمات الحقوقية التركية إلى وصف ما جرى بـ«الجريمة الخارجة عن القانون»، ليتفرّغ الشارع السياسي للغوص في النقاش في ضرورة محاسبة الجيش وجهاز الاستخبارات على مسؤولية الجريمة. وفي ظل اكتفاء الحكومة بالإعراب عن أسفها على «الحادثة المؤسفة» وقرارها تعويض ذوي الضحايا الـ35 مالياً، من دون إصدار اعتذار رسمي عنها، حاولت إطلاق هجوم مضاد من خلال اتهام الحزب الكردي «الشرعي» لأكراد تركيا، «السلام والديموقراطية»، بـ«استغلال» الحادثة في إطار العداوات الإثنية في البلاد. اتهام ردّ عليه زعيم الحزب الكردي المذكور، صلاح الدين ديميرتاش، بخلع الشرعية عن رئيس الحكومة رجب طيب أردوغان، قائلاً إن «الأكراد لا يعترفون بأردوغان رئيساً للحكومة». وأحد عناوين الإشكالات التي نتجت من الجريمة هو «عدم الإحساس» الذي تعاطت به مجموعة من وسائل الإعلام التركية، إضافة إلى «الاحتقار» الذي تميّز به خطاب الجيش التركي في تبريره للجريمة، على اعتبار أنّ ما حصل كان «خطأً عملياتياً سببه أنّ المنطقة التي قصف فيها المهرّبون الـ35 هي نفسها منطقة تحركات مقاتلي حزب العمال الكردستاني الإرهابي». أما ردود فعل الحكومة فقد كان سقفها أعلى، لكن من دون المطلوب بالتأكيد، إذ إنها أمرت بإجراء تحقيق كامل في الحادثة ودفع التعويضات لذوي الضحايا، من دون أن يمنع ذلك نائب رئيس الحكومة بولنت أرينش من التأكيد أنه «لا حاجة إلى اعتذار رسمي». ووسط هذه الأجواء، تُطرح أسئلة كثيرة بشأن ملابسات «الحادثة»؛ أولى علامات الاستفهام محورها أنّ تهريب البضائع هو عمل شائع جداً في هذه المنطقة الحدودية، وهو يجري بعلم الحكومة التركية وموافقتها الضمنية. ويقول أهل القرية التي قُتل فيها المواطنون الـ35 إنّ قوات الأمن تغضّ النظر عن مهنة التهريب التي تدرّ على الفرد الواحد نحو 50 دولاراً يومياً، مع الإشارة إلى أن معظم من يعملون في التهريب هم من الشباب والطلاب الذين يحاولون توفير مدخول إضافي. أكثر من ذلك، يؤكد القرويون أنه في حالات الغارات الجوية التركية والنشاطات العسكرية ضد «العمال الكردستاني»، يجري تحذيرهم عادةً من عدم التحرك على الحدود، وهو ما لم يحصل يوم الحادثة الدموية. ووصلت الأمور بـ«اتحاد المنظمات غير الحكومية والنقابات المهنية» الشديد النفوذ في تركيا، إلى التأكيد أنّ الغارة حصلت بعلم مسبق تام من السلطات العسكرية بأن المتحركين ليسوا «إرهابيين». وعن هذا الموضوع، شدّد رئيس جمعية حقوق الإنسان التركية، أوزتورك توركدوغان، على ما خلص إليه تقرير منظمته، ومفاده أنّ «مثل هذه الأخطاء لا يمكن أن تحصل»، وما حدث كان «بنيّات مسبقة وبحقد». كلام «كبير» أورده تقرير وقّعه كل من «جمعية حقوق الإنسان»، و«اتحاد نقابات القطاع العام»، و«مجلس السلام التركي»، و«منظمة حقوق الإنسان التركية»، و«نقابة الأطباء»، و«نقابة الصحافيين»، و«اتحاد العمال الثوريين»، و«منظمة حقوق الإنسان ـــ مظلوم دار». وجاء في التقرير أنّه «لم يصدر أي تحذير قبل حصول القصف الجوي»، في تكذيب علني لادّعاءات الحكومة. وبحسب التقرير، لم تؤدِّ وحدات الجيش دوراً إنسانياً مساعِداً بعد حصول الغارات، حتى إنّ جندياً واحداً لم يأتِ ليقدم المساعدة في مكان الجريمة، وهو ما دفع القرويين إلى سحب الجثث بأنفسهم. وفي السياق، كشف كبير أحزاب المعارضة التركية، «الشعب الجمهوري»، في تقرير خاص به عن المجزرة، أنّ «13 جريحاً سقطوا في الغارة، لكنهم توفوا بعد ساعات طويلة بسبب عدم قدوم سيارات الإسعاف أو مروحيات الإسعاف لنجدتهم، فماتوا برداً، وبسبب نقص المواد الأولية الطبية في قريتهم». ويقول رئيس جمعية حقوق الإنسان التركية أوزتورك توركدوغان لـ«الأخبار» إنّ المعلومات التي وفّرتها طائرات من دون طيار تركية، والتي على أساسها حصلت الغارات الجوية، قادرة من دون أي لبس على معرفة ما إذا كان الأشخاص مسلحين أو غير مسلحين، فيما كان المهربون الضحايا يحملون السجائر والمازوت فقط». وقد تبيّن أنّ الطائرات من دون طيار، التي أعطت الإحداثيات العسكرية التي حصلت بموجبها الغارة التركية، هي أميركية، ويندرج عملها في تركيا في خانة المساعدة الأميركية المعطاة لتركيا في مجال «مكافحة الإرهاب» الكردي. وهذه الطائرات الأميركية نُقلت أخيراً من العراق إلى تركيا بعد إكمال الانسحاب الأميركي من بلاد الرافدين قبل أيام.
وفي تفسيره للحادثة، يعرب توركدوغان عن رأيه بأن «هناك استفزازاً كبيراً، لكن من غير الواضح مدى هذا الاستفزاز بعد»، من دون أن يستبعد وجود «تورط دولي في ما حصل، ربما لاستفزاز الحكومة». وقبيل الحادثة بساعات، كانت الحكومة التركية قد أعلنت أنها بدأت بالفعل العمل على تنفيذ المرحلة الثانية من «مبادرة الحل الديموقراطي» الهادفة إلى حل إشكاليات القضية الكردية. ومصدر الاستغراب من أن تكون الغارة قد استهدفت المهربين عن سابق إصرار وتصميم، يكمن في واقع أن عدداً كبيراً من ضحايا الغارة هم من «حرس الحدود»، وهم قوات شبه عسكرية مموّلة ومسلحة من الجيش بهدف المساعدة في محاربة «العمال الكردستاني». أكثر من ذلك، فإنّ أحد القتلى هو شقيق رئيس فرع حزب «العدالة والتنمية» الحاكم في المنطقة التي حصلت فيها الجريمة.