>مسكين باراك أوباما. طوال اليوم تستمتع ابنتاه ساشا وماليا بآخر صيحات تكنولوجيا المستهلك التي يؤمّنها هاتف «آيفون» بينما يكتفي هو بجهاز من صناعة «بلاكبيري»... موديل 2007! يرغب الرئيس بتطوير تجربته مع الأجهزة الإلكترونية وخصوصاً أنّه صُنّف منذ انطلاق سباقه صوب البيت الأبيض قبل سبع سنوات تقريباً أكثر الرؤساء حنكة في عالم التكنولوجيا والاتصالات، غير أنّ وكالات الحماية السرية تحظّر عليه استخدام تحفة شركة «آبل»، أو أي هاتف آخر قد يُعرّض أمنه للخطر.

في عالم الاتصالات مخاطر انكشاف حقيقية تُعرّض معلومات حتى الرؤساء والقادة للمساومة. أوباما وفريقه الاستخباراتي في وكالة الأمن القومي (NSA) يعرفون ذلك جيداً؛ فجزء مهم من موارد أميركا يُصرف على نشاطات التجسس على زعماء العالم؛ لعلّ أبرزهم أنجيلا ميركل: المستشارة الألمانية التي تُصنّف المرأة الأقوى في العالم وجدت نفسها بين فكي كماشة الأمن الأميركي (واليوم يبدو أن العلاقات الاستخبارية بين البلدين نخرها الشك ويصعب تصحيحها). في هذا العالم أضحى كل شيء متاحاً. لقد تخطت الأجهزة الاستخبارية أساليب التنصّت التقليدي التي كرستها في وعينا الجماعي ثقافة واضحة؛ وذكرنا بها على نحو مبدع الفيلم الألماني «حيوات الآخرين» (Lives of others) قبل سنوات قليلة حين أضاء على عمل جهاز الاستخبارات في ألمانيا الشرقية، «شتازي».
أصبح النشاط الاستخباري يتم على مستويات أرفع إن كان يستهدف أشخاصاً محددين أم للتجسس بالجملة على الشعوب. مثلاً، كُشف أخيراً أنّ مجموعة من القراصنة الصينيين استخدموا رسائل إلكترونية لإغراء دبلوماسيين أوروبيين بوعد الحصول على صور فاضحة لكارلا بروني ــ الفنانة، عارضة الأزياء، وزوجة الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي ــ وتمكنوا من اختراق الخوادم الإلكترونية (Servers) لخمس وزارات خارجية في أوروبا.
أما لضمان أن لا شيء في العالم يفلت من رقابة الأخ الأكبر الاميركي وحلفائه ــ أو للمناسبة أي وكالة استخبارية في العالم لديها القدرة والمعرفة ــ فهناك أجهزة وبرامج منتشرة عند كل مفرق من الحياة الرقمية وعند إجراء كل اتصال لرصد مضمونه وأبعاده.
كثيرة هي فضائح الاستخبارات في عام 2013، ولكن يبقى ما كشفته الشاب الأميركي إدوارد سنودن عن ممارسات وكالة الأمن القومي الأميركية أكثر المعطيات إثارة للجدل في هذا المجال.
رد الفعل المباشر الاول على تسريبات سنودن، كان قيام إدارة الرئيس أوباما بتعيين فريق لإعادة رسم القواعد العامة التي تحكم عمل وكالة الأمن القومي. وفقاً لما سُرّب الأسبوع الماضي عن عمل هذه اللجنة، يبدو أنّ التوجه هو صوب نقل الوصاية على هذه الوكالة من المؤسسة العسكرية إلى الجهاز المدني، مع ضرورة تحديد كيفية جمع وحفظ المعلومات الإلكترونية عن الأميركيين؛ وأخيراً رفعت اللجنة المولجة إجراء تعديلات أكثر من 40 توصية. إذاً المعلومات الإلكترونية لباقي الشعوب تبقى متاحة للانتهاك والحفظ كما كان يحصل في السابق ولا تنطبق عليها معايير الشفافية وحقوق الإنسان.
«لقد انتقل عالم الاستخبارات من التنصت البسيط إلى مراقبة كل الناس كل الوقت عبر مختلف الأجهزة المتاحة»، يحذّر الناشط الحقوقي الإلكتروني جايكوب آبلباوم ــ وهو باحث مستقل في مجال الأمن السيبراني ــ في محاضرة القاها في تشرين الثاني الماضي. «هذا تحوّل لم تشهده البشرية من قبل؛ إنه مرعب لأن هذه القوة الهائلة تُستخدم على نحو غير شفاف».
يقصد هذا القرصان التابع إلى «معكسر الخير» في العالم الإلكتروني أن المنظمات السرية والحكومات التي تتحكّم بتلك الكميات الهائلة من المعلومات لا يُمكن الوثوق فيها، وبمجرّد أن يتساءل المرء عن كيفية تصرفها بتلك المعلومات يتعرض للملاحقة والاضطهاد.
وجايكوب آبلباوم نفسه، الذي يُعدّ أحد الأصوات البارزة لويكيليكس، تعرض للملاحقة والاستهداف من وكالات الأمن والاستخبارات الأميركية؛ عمدت إلى وقف حسابه على موقع «تويتر» كما صادرت أجهزة ومعدات إلكترونية يملكها فضلاً عن احتجازه أكثر من عشر مرات.
يعلم إدوارد سنودن والصحافي في جريدة «غارديان» البريطانية، غلين غلينوولد (الذي ينشر تفاصيل الاستخبارات الأميركية) تلك الممارسات جيداً، فهما عانيا الأمرين منذ بدء تسريب وثائق الاستخبارات الأميركية. ما فعلاه هو «أخطر كشف للمعلومات السرية في تاريخ أجهزة الاستخبارات الأميركية» بحسب تعبير الرئيس السابق لوكالة الاستخبارات الأميركية (CIA)، مايكل موريل.
ولكن كما صار معروفاً، التطفّل الإلكتروني على شعوب الكوكب، من العامّة وصولاً إلى القادة والرؤساء، لا يقتصر على الوكالات الاستخبارية بل هو نشاط محبب على قلوب الشركات الإلكترونية نفسها، وتحديداً على الشركات التي تُطوّر التطبيقات (Apps).
أخيراً، تبيّن أن التطبيق الشهير Brightest Flashlight الذي يُستخدم لتشغيل ضوء الفلاش على الهاتف، يحصل على المعلومات الجغرافية للمستخدمين ويبيعها لأطراف أخرى، أي شركات تهتم بتحليل نمط التحرك الجغرافي للمستخدم لتحقيق الأرباح بدورها.
وبعد تحقيق بالقضية توصلت لجنة فدرالية أميركية مختصة إلى تجريم شركة Golden Shores (الشواطئ الذهبية!) التي تُطور هذا التطبيق الموجود على أجهزة الملايين من مستخدمي نظام «أندرويد».
الأخطر في الأذونات التي تطلبها التطيبقات للعمل (Permissions) ــ والتي يتجاهلها المستخدم لحماسته إلى البدء في استخدام التطبيق ــ هي قدرتها على استطلاع محيطك حتى عندما لا تكون في حالة الاستخدام. فحتّى على أجهزة بلاكبيري، التي تُعّد الاكثر أماناً لدرجة أن الرئيس الأميركي نفسه يستخدمها، تجد تطبيقات تطلب الحصول على إذن باستخدام الكاميرا في الوقت التي ترتئيه: يُحذّر برنامج الهاتف من أن التطبيق قد يلتقط الصور العشوائية لمحيطك وينتهك خصوصيتك (!)
ومخاطر الانكشاف إلى تزايد. فالمستهلكون يتوجهون أكثر صوب الأجهزة العملية التي ترافقهم طوال اليوم لتوفير طلباتهم الإلكترونية. وفقاً لتقديرات شركة أبحاث السوق، Enders Analysis، سيتخطى عدد الهواتف الذكية المستخدمة عدد الحواسيب المنتشرة في العالم في النصف الأول من عام 2014.
في ظلّ معمعة فقدان الشفافية والخصوصية هذه، ترتفع أصوات محذرة من انكشاف مستخدمي الإنترنت والتكنولوجيا الحديثة ومن ممارسة الشركات المختلف، لدرجة أن بعض المحللين يذهب في توقعاته لعام 2014، إلى أنّ غضب الشباب سيبدأ ينصب على شركات التكنولوجيا ــ وهي بغالبيتها الساحقة أميركية ــ بسبب كيفية تسويقها لمعلومات المستخدمين وتحقيقها أموالاً طائلة من هذه الممارسة.
تتنبّه شركات الإنترنت ــ وتحديداً تلك التي تعتمد على تشارك المعلومات، من الصور إلى الأذواق الموسيقية ــ إلى هذه الصورة بكليتها. وهي وجدت نفسها في الآونة الأخيرة محشورة بين الحكومة الأميركية وحقوق مستخدمي خدماتها، فقامت ثمان منها بخط رسالة موجهة إلى الإدارة الأميركية، تطلب فيها بمزيد من الشفافية وبتطبيق الإصلاحات ومعايير الرقابة على عمل الجواسيس الإلكترونيين.
ترصد هذه الشركات ــ وبينها «غوغل»، «فايسبوك»، «تويتر»، و«آبل» ــ خسائر ممكنة في حال استمرّت ممارسات الأجهزة الاستخبارية. فهي تعتمد على التوسع المستمر لقاعدة الزبائن (مدير فايسبوك، مارك زوكربرغ، يريد وصل العالم كله بالإنترنت عبر مبادرته «الإنسانية») وعلى كثافة التواصل وتشارك المعلومات بين هؤلاء لتوليد العائدات الإعلانية تحديداً. ولكن في حال استمرت ممارسات الاستخبارات العالمية على ما هي عليه ــ وبالزخم الذي كشفته وثائق إدوارد سنودن ــ فإنّ ذلك لن يتحقّق. صحيح أنّ تقدير نوع كهذا من الخسائر (أو أرباح غير محققة) صعب في هذا المجال إلا أن رقماً يُتداول في الفترة الأخيرة يضع الخسائر عند 35 مليار دولار بحلول عام 2016.
وقد التقى باراك أوباما قبل يومين بمديرين شركات التكنولوجيا الاساسية في البلاد (15 شركة) لبحث مجموعة من القضايا بينها «الأمن القومي».
قد تتوصل الإدارة الأميركية إلى تسوية مع الجميع للحفاظ على إجراءاتها وإن عند مستوى أقل انكشافاً ووقاحة. ولكن خلاصة القول هي أنه بين الأجندة الاستخبارية لواشنطن وحلفائها وبين المشاريع التجارية التي تطوّرها شركات الإنترنت المختلفة تتشرذم مصالح المستخدمين وحقوقهم: تفرض عليهم التكنولوجيا تخلٍ متزايد عن خصوصيتهم لصالح الاستمتاع بكافة مميزات العالم الرقمي، وفي الوقت نفسه هم لا يعرفون أو يغضون النظر عن السلبيات التي يحتمها هكذا وضع (ببساطة، لم يعد هناك شيء خصوصي). فهل تنشأ من رحم هذا الصراع الذي يفرض علينا التخلي عن سريتنا، حركة حقوقية فعلية تجمع مصالح مستخدمي الشبكة العنكبوتية؟ هو السؤال الذي قد يبدأ جوابه بالتبلور عام 2014.




الاستبداد كما وصفه أورويل

ثقافة الاستخبارات الاميركية على طريقة وكالة الأمن القومي (NSA) هي إلى انهيار. هكذا وصف الناشط الحقوقي الشاب الذي فضح كلّ شيء، إدوارد سنودن ما آلت إليه أوضاع هذه الوكالة. كلامه جاء غداة قرار القاضي الفدرالي من مقاطعة كولومبيا، ريتشارد ليون، بان تنصت الوكالة على الأميركيين هو غير قانوني. «لا يُمكنني تخيّل خرقاً اكثر استبداداً وعشوائية من عملية الجمع والحفظ المنظّمين للمعلومات الشخصية لكلّ مواطن لأهداف تتعلّق بالاستقصاء والتحليل من دون موافقة قضائية مسبقة» قال القاضي في تقريره. ووصف ما يحدث بأنه مشابه لما حذّر منه الكاتب جورج أورويل: تدمير الحرية الاجتماعية والإنسانية على مذبح الممارسات السياسية المتسلطة. غير أن قرار القاضي يتعلّق فقط بمواطني أميركا؛ في الخارج يُمكن العم السام فعل ما يشاء.