لوهلة، تسأل نفسك وأنت تتابع وقائع الاحتفال العالمي بوداع المناضل الأفريقي روليهلاهلا (نيلسون) مانديلا: ولكن؟ ماذا يفعل كل هؤلاء الرؤساء والجنرالات في جنازة «ماديبا»؟ تستمع الى البث المباشر يعدد اسماء الضيوف والنجوم والمشاهير.. «باقة» من مجرمي العالم، ارهابيي الدول، توافدوا من وراء البحار احياناً، تكبدوا كل هذه المشقة لوداع هذا «الارهابي» المؤمن بالمقاومة المسلحة، مانديلا الرمز.. ولكن اي رمز؟ ما هي ملامح هذا الرمز الذي جاء هؤلاء ليودعوه؟ ام هي صفة «الرئيس السابق» تشرع وجودهم؟
بدت الجنازة نوعاً من عملية «تبييض» ضخمة بدأت منذ زمن، ولكنها وصلت الى خواتيمها. الفاجعة الأولى هي إغفال معظم الندبيات الانيقة للراحل، خاصة تلك التي تروج لها وكالات الانباء،انه كان مؤمناً بالمقاومة المسلحة كطريق للتحرر الوطني. هكذا، بدا الرجل كما لو انه كان نسخة ثانية، حسب احد الزملاء، من غاندي! «قلمت» اظافر الايقونة في نعي الفقيد، وروج لصورة، ترتبط في المزاج العام بمفردات من نوع «نوبل للسلام» التي تقاسم جائزتها مع فريديريك دوكليرك آخر رؤساء نظام الفصل العنصري! تساوي هذه الجوائز بين الضحايا والجلادين كنوع من التطبيع مع نهاية القضية، سبق ان ساوت «الجائزة» بين رابين وعرفات، ربما كانت هذه
مهمتها.
إذاً، بتوفير اطار مقلم الأظافر ومهذب كهذا، صار بامكان كل هؤلاء ان يحضروا: مجموعة من رؤساء الولايات المتحدة الاميركية التي غطت النظام العنصري لبريتوريا وغيره مع حلفائها من الاستعماريين السابقين كبلجيكا (التي اعدمت بمعيتها باتريس لومومبا رئيس الكونغو التاريخي ومحررها وقطعته الى اجزاء صغيرة واحتفظ الضابط البلجيكي الذي اعدمه باثنين من اسنانه للذكرى بعد تذويب جثته بالأسيد). حضروا كلهم «قشة لفة» من كارتر الى كلينتون (الذي كان مانديلا على لائحة السي آي ايه للإرهاب في عهده) فجورج بوش الاب والابن (مخترع غوانتانامو ما غيرو) وصولاً الى الرفيق اوباما المفخخ دعائياً بلونه. اما زينة الجنازة؟ فرئيس البرلمان الاسرائيلي!
ما الذي يعنيه ذلك؟ كيف يمكن ان يجتمع ممثلو الدول الاستعمارية المصدرة والصانعة للعنصرية بكل اشكالها: الطبقية والدينية والعرقية، الدول الساحقة للفقراء مهما كان لونهم او عرقهم او دينهم، في جنازة ابو الفقراء والمظلومين؟ ما هي العبرة؟ ميركل هنا ايضاً؟ هل هناك ممثل عن بروكسل؟ وبالطبع فرنسوا هولاند و«صاحبته»، ووزيرة العدل الفرنسية توبيرا التي تعاني من العنصرية في فرنسا، لكنها توقّع في اوقات فراغها على تمديد حبس جورج ابراهيم عبدالله، المناضل اللبناني الرهينة في سجون فرنسا بامر اميركي.. بأي عين يأتي كل هؤلاء؟ لا ادري.. لم يكن ينقص الا ساركوزي، محرر ليبيا شخصياً... الذي حضر بالطبع!
لكن الفاجعة الأخرى اتت من حيث لا اتوقع... من بريدي الإلكتروني! رسالة من زميلة فلسطينية شابة تكتب مقالة مفادها: من هو مانديلا لنحتفي به كل هذا الاحتفاء؟ معترفة بأنها بحثت عنه في غوغل ووجدت انه شخص مهم.. لكنها دعت للاهتمام «بأنفسنا كفلسطينيين بدلاً من ندب غيرنا».
تتنبه الى جانب آخر مغيب من مواقف مانديلا، هي تلك التي لها علاقة بفلسطين. والتغييب لا يأتي فقط من أسلوب إعلام «الماينستريم»، بل لعدم وجود أدبيات عربية فلسطينية تهتم بإطلاع الاجيال الجديدة على نضالات العالم التي تشبه نضاله، ادبيات تفيد باستخلاص الدروس وتخفف من الاحساس بالترك والوحدة في عالم الغابة الذي نعيشه اليوم. لكننا اليوم غرقى في ادبيات الاستشهاد دون ادبيات النضال، وهناك فرق كبير بينهما.
مانديلا الذي كافح نظام بريتوريا العنصري المدعوم من شريكته اسرائيل، والذي قال انه «لا يمكن ان نتمتع بحريتنا في حين ان شعب فلسطين مظلوم وفاقد لحريته».. تقول عنه فتاة غزاوية فلسطينية انه ليس من اهتماماتنا.
مات مانديلا وتركنا في عالم أكثر وحشية وجهلاً وانانية. ودعناه بجنازة كان عزاؤنا فيها، حضور شعب جنوب افريقيا من البسطاء ليودعوا محررهم بما يليق حسب تقاليدهم.
اما الفاجعة الثالثة، فقد كانت عندنا في لبنان، وذلك لقيام شخصيات معروفة بعنصريتها تجاه «الغريب والاسود والمرأة والمعوق والفلسطيني»، بنعي مانديلا بييانات يتندر بها اللبنانيون على مواقع التواصل.. بيانات من نوع نعي سعد الحريري الذي قال انه بفقدان مانديلا «سيفتقد الذهب الاسود»، خالطاً بينه ربما وبين أصحاب براميل النفط.
لقد كان بإمكان لبنان لو اراد (واستطاع) الاستفادة من تجربة مانديلا فعلاً، ان يتبنى على الأقل، كما فعلت دول يوغوسلافيا السابقة، فكرة منابر المصالحة الوطنية. وهي تجربة فريدة طهرت قلوب الجنوب افريقيين باعتذار المجرمين من الضحايا وطلب الصفح منهم، ما وفر الامكانية لاستئناف البلاد لحياة شبه طبيعية بدون احقاد وثارات.
لكن.. هيهات. فنحن في لبنان، بلد اللاغالب واللامغلوب. ثم انه لا وقت لدينا لأي من هذا... إننا ننتظر الكسا.