صحيح أن بلدان الخليج النفطية تُعدّ مصدراً مهماً للعملات الصعبة لاقتصادات المنطقة عموماً، إلا أنها تعاني بدورها من اختلالات هيكلية يُحاول البعض تجنّب التطرق إليها عندما يثمل برائحة الوقود. أساس الخلل هو في سوق العمل التي تعاني من ضعف الإنتاجية وفي سوء إدارة الاستثمارات العامّة.
لا تحتاج المقارنة السطحية بين البلدان العربية الغنية بالنفط وتلك الفاقدة لهذه «النعمة» إلى الكثير من الفذلكة. يُمكن الاكتفاء بالإشارة إلى أنه فيما تجاهد البلدان المستهلكة للنفط ــ بكل فسادها وأنظمتها الرأسمالية الرعوية ــ لجذب العملات الصعبة منذ نهاية عام 2010، ستتمتع بلدان مجلس التعاون الخليجي الستة بأصول أجنبية صافية تفوق 2.5 تريليون دولار (2500 مليار دولار) العام المقبل.
ولكن رغم وضوح الواقع كأشعة الشمس الساطعة على مباني دبي الزجاجية وعلى رمال السعودية الحارقة، يتغلب صندوق النقد الدولي على الآخرين وعلى نفسه في المديح؛ في لحظات معينة يصوّر البلدان النفطية على أنّها آخر ملاجئ الازدهار إقليمياً ودولياً.
خلال الاجتماع السنوي لوزراء المالية ومحافظي البنوك المركزية في الرياض في بداية تشرين الأوّل 2013، أغدق ممثلو صندوق النقد بالمديح على البلدان الخليجية وعلى أدائها الاقتصادي الإقليمي بصفتها المحور الأول والملجأ الأخير للشرق الأوسط؛ شعرنا بغرام معين يكنّه الصندوق تجاه السياسات الاقتصادية التي تعتمدها الملكيات والإمارات. قال ممثلو الصندوق إنّ «تدفّق التحويلات من المغتربين العاملين في البلدان الخليجية إضافة إلى المساعدات المالية السخية تُعدّ مصادر دخل مهمّة لباقي البلدان».
كلمات نابعة من قلب الغرام الذي يغضّ النظر عن أنّ لا وجود للسخاء من دون المصالح السياسية، فالدعم الذي فاق عشرة مليارات دولار لمصر خلال محنتها الأخيرة من ثلاثة لاعبين خليجيين ليس هبة مجانية بل ضمانة لنفوذ إقليمي استراتيجي. أما تحويلات المغتربين فهي ليست منّة خليجية بل هي حقوق مشروعة مقابل أعمال تنفذها جاليات بينها أصحاب المهارات وبينها العمالة غير الماهرة ــ وللمناسبة في كثير من الأحيان تكون هذه الحقوق مقضومة ومشوّهة كما يحصل حالياً مع عمّال مشاريع كأس العام 2022 في قطر.
من حسن الحظّ أنّ التقارير المكتوبة تحتمل إلى حدود بعيدة إدراج الوقائع، بعكس ما تفرضه عدسات الكاميرا التي تلتقط كلام المسؤولين وتعابيرهم خلال الإطلالات الدولية. هكذا تعكس التقارير الخاصة باللقاءات التي شهدتها العاصمة السعودية، صراحة أكبر حول النظرة إلى دور ومستقبل البلدان الخليجية.
تعاني بلدان مجلس التعاون الخليجي (السعودية، الإمارات، عمان، البحرين، قطر والكويت) عموماً خللاً ديموغرافياً عميقاً. يعيش فيها قرابة 45 مليون نسمة، 39% منهم هم من المهاجرين أو المغتربين؛ وترتفع هذه النسبة فوق 70% في الإمارات، قطر والكويت.
صحيح أن الأموال التي يحوّلها سنوياً العمال الأجانب في بلدان مجلس التعاون الخليجي تُعدّ هائلة ــ تساوي ضعف الاقتصاد اللبناني برمته ــ إلّا أنها تعكس واقعاً صعباً على الضفتين. في البلدان المهجّرة مثل لبنان، يعادل الاعتماد على التحويلات الإفلاس السياسي الوطني في خلق حلقة إنتاج فاعلة تُوظّف المتخرجين تحديداً، أما في الخليج الذي يستقبل تلك العمالة المطرودة فالقصة صعبة أيضاً. «في خضمّ فترة الرواج النفطي في السبعينيات، قررت دول مجلس التعاون الخليجي استيراد العمالة على نطاق واسع لتحقيق الأهداف الإنمائية» يقول الصندوق في تقريره. «أدت الحاجة إلى تطوير البنية التحتية والخدمات لتلبية متطلبات التوسع الحضري في المجتمعات مع قلة أعداد السكان في سن العمل إلى نشوء وترسيخ الاعتماد على تدفقات العمالة الوافدة قصيرة الأجل لتلبية احتياجات سوق العمل». هكذا كانت نتيجة الحصول على العمالة الأجنبية «دعم النمو الاقتصادي السريع واستقرار الأسعار في المنطقة».
إذاً، بقدر ما كان (ولا يزال) تدفّق العمالة الإقليمية والآسيوية إلى بلدان الخليج مهماً للبلدان المصدرة لقوة العمل، فهو حيوي للبلدان المستقبلة. هكذا يُمكن تصحيح المقولة: التحويلات الصادرة من بلدان مجلس التعاون التي فاقت 80 مليار دولار عام 2012، ليست إفادة باتجاه واحد بل باتجاهين. وهذا التصحيح مهمّ ليس فقط للرأي العام الذي يتكوّن من الإطلالات الإعلامية لخبراء، بل أيضاً لمناقشة جهابذة الرأسمالية اللبنانية المشوهة الذين يذكرونا في كل مرة أن لبنان بحاجة إلى إخوانه الكبار ذوي الجيوب الملأى بالبترودولار، أو أن استقبال العمال الباكستانيين والهنود لتطوير البنى التحتية بعد غشّهم وحجز جوازات سفرهم، هو فعل خير وكرم يسيل على المحيط!
المشكلة الأكبر ليست التوصيف ــ وإن كان مهماً لتحديد مدخل المعالجة ــ بل في الواقع القائم في سوق العمل الخليجية، كما يراها صندوق النقد ومختلف المؤسسات المختصة (راجع الكادر المرفق). اليوم يُقدّر الصندوق بأنّ العمالة الأجنبية تشغل أكثر من 80% من وظائف القطاع الخاص، «وفيما ترتفع البطالة بين المواطنين في بعض دول المجلس، يعتمد المواطنون في دول أخرى على القطاع العام أساساً للحصول على وظائف» يقول التقرير مشيراً إلى أنّه «يترتّب على ذلك ضعف نمو الإنتاجية نسبياً».
هكذا ستؤدّي زيادة أعداد السكان من الشباب وارتفاع معدلات المشاركة في القوى العاملة إلى ارتفاع عدد الداخلين الجدد. اليوم لا يزال معدل مشاركة المواطنين في قوة العمل منخفضاً (52% للذكور و25% للإناث) إلا أنه يمثّل قفزة عما كان عليه قبل عقد مثلاً، وفي ظلّ معدل نمو لقوة العمل يراوح بين 3% و4% سنوياً، فإنّ قوّة العمل في مجلس التعاون ستزيد بما يراوح بين 1.2 مليون و1.6 مليون عامل بحلول عام 2018.
التحديات في هذا المجال كبيرة، فمع الاستمرار بامتصاص العمالة الوطنية في القطاع العام تتضخم فاتورة الأجور في هذا القطاع؛ معدل تلك الفاتورة نسبة إلى الناتج يبلغ 9%، أي ضعف المعدل المسجّل في البلدان الأخرى المصدرة للنفط؛ وفقاً لبيانات عام 2013، فإنّ تلك الفاتورة تبلغ 144 مليار دولار.
يُشار هنا إلى أنّ المعدّل يبلغ 10% في حالتي السعودية والكويت، ويرتفع إلى 12% في البحرين.
وتفيد نتائج الحسابات التي نفذها خبراء الصندوق بأن الخليج يعاني مشكلة عميقة على مستوى الإنتاجية ــ أي فاعلية العمالة في تنفيذ النشاطات المختلفة. وبحسب تحليلهم، فإنّ «الهبوط طويل الأجل في إنتاجية العمالة في العديد من دول مجلس التعاون هو على نقيض تجربة البلدان المقارنة على مدار العقد الماضي». يضيف التحليل أن هذا الهبوط مرتبط جزئياً على الأرجح «بالاستراتيجية الإنمائية للاستثمارات الكبيرة في البنية التحتية والتي تعتمد على العمالة المهاجرة المؤقتة وذات المهارات المنخفضة». ومع ذلك، «تشير الاتجاهات العامة في الإنتاجية أيضاً إلى وجود مواطن عدم كفاءة في الإنفاق الاستثماري».
يدعو تقرير الصندوق إلى «استغلال المواهب» في الاقتصادات الخليجية لحل مشكلة عمالتها التي قد تتطور إلى أزمة اجتماعية مع اقتراب معدل بطالة الشباب إلى الثلث؛ إلى خلق فرص العمل للشباب؛ وإلى تعزيز قطاع التعليم إضافة إلى «توسيع فرص التوظيف المتاحة للمرأة». ويُخصّص فقرة خاصّة تحت سؤال/ عنوان، يُمكن القول إنه «بسيط»، «ما الذي يُفسّر تدنّي مشاركة الإناث في القوى العاملة في مجلس التعاون الخليجي؟»(!).
غير أنّ الأساس في خلاصاته الضمنية هو أنّ بلدان مجلس التعاون الخليجي ــ وفي ظلّ معاناتها من ضعف الإنتاجية وسوء تنفيذ الاستثمارات واستخدام الأموال ــ تحتاج إلى عمالة محيطها اليوم تماماً كما يحتاج العالم إلى نفطها؛ وحتّى الحقيقة الثانية تحتاج إلى مراجعة.

شبه حاجة إلى شبه الجزيرة




تُنتج بلدان مجلس التعاون الخليجي 17.2 مليون برميل نفط يومياً. استناداً إلى معدل سعر برميل الخام، فإنّ قيمة هذا الإنتاج تكون 1.8 مليار دولار يومياً. يُصدّر جزء من هذه الموارد الطبيعية، يُستهلك جزء آخر محلياً، ومن حيث القيمة هناك حصص تُوزّع (على الشركات والسماسرة مثلاً) قبل أن تصل الأموال إلى الخزنات العامّة.
كيفما استغلّت بلدان الخليج أموالها النفطيّة، هناك ثابت واحد يجمع بينها جميعها: إنها تبقى مرهونة بهوامش هائلة لإنتاج الموارد الطبيعية وتصديرها، إما للحفاظ على نمط إدارة وإنفاق عام يصبو إلى النفوذ السياسي أو، إذا تحرّرت البصيرة، تطوير القطاعات غير النفطية وتنفيذ الاستثمارات المستدامة.
لكن هناك متغيّرات في سوق النفط عالمياً تجعل وضعية بلدان الخليج أكثر حساسية بل حتّى تزرع القلق منذ اليوم في الإدارات الملكية والأميرية. مع العلم أن تلك الإدارات لم تكن واعية على ما يبدو حتّى اليوم إلى أنّ «أحد التحديات الرئيسية (أمامها) يتمثل في توفير فرص عمل في القطاع الخاص للسكان الشباب الذين تتزايد أعدادهم بسرعة» وفقاً لتقرير صندوق النقد الدولي عن الآفاق الاقتصادية والتحديات على صعيد السياسات في دول مجلس التعاون.
في المباشر، يتحدّث الصندوق عن أنّ «آفاق النمو في دول مجلس التعاون الخليجي تتسم بأنها موجبة، لكنها ستتأثر بالتطورات العالمية والإقليمية».
يحدد خبراء الصندوق سيناريوهات سلبية تُشكّل خطراً على وضعية بلدان الخليج وتحديداً عبر التأثير على سعر النفط. مثلاً، «تفاقم للضغوط في منطقة اليورو» أو «تباطؤ النشاط الاقتصادي في الأسواق النامية لفترة طويلة» سيؤديان إلى تراجع سعر النفط بنسبة تراوح بين 7% و20%. «وقد تتعاظم هذه الآثار إذا ازداد إنتاج النفط في الولايات المتّحدة بوتيرة أسرع من المتوقع».
خلال المدى المنظور ستتمكن معظم البلدان الخليجية من تخطي عثرة تراجع الأسعار معتمدةً على الأصول الخارجية الإجمالية (أي العملات الصعبة في خزناتها). وبحسب تقديرات الصندوق فإنّ تلك الأصول بلغت 1.8 تريليون دولار بنهاية 2012، أي أنها تمثّل أكثر من 115% من ناتج المنطقة.
وعلى الرغم من أنّ بلدان الخليج إجمالاً لا تعاني من عبء مديونية كبير «سيبدأ تآكل الهوامش الوقائية على مستوى المالية العامة التي تكونت في السنوات الأخيرة إذا امتد هبوط الإيرادات النفطية لفترة طويلة».
في حال انخفض سعر برميل النفط بواقع 25 دولاراً في عام 2014، فإنّ المالية العامّة في جميع البلدان الخليجية ستواجه عجزاً في عام 2018. كذلك ستنخفض أرصدة الحساب الجاري (أي محصلة التعامل مع الخارج) وسيسجّل رصيدا قطر وعمان عجزاً.
باختصار، ما يعنيه تحليل صندوق النقد هو أن بلدان الخليج النفطية قد تستفيق في يوم ما وتجد نفسها في ورطة!
هذه التحذيرات ليست جديدة، بل هي بقدم سوء إدارة الموارد المسجّل في الخليج. في عام 2012، توقّع مصرف Citi، في تحليل أعدته الخبيرة هايدي ريمان، أن «تصبح السعودية بلداً مستورداً للنفط بحلول عام 2030 إذا ارتفع استهلاكها للنفط بالتوازي مع وصول الطلب على الطاقة (الكهرباء) إلى الأوج».
فعلياً، تستخدم السعودية ربع إنتاجها النفطي محلياً، وتعتمد على الخام لتأمين أكثر من 85% من إيرادات ماليتها العامة. أخيراً، أظهرت عناداً واضحاً إزاء استيراد الغاز ــ مثلما يفعل بعض جيرانها ــ واليوم تستهلك كل الغاز الذي تنتجه وتعوّل على تطوير الطاقة النووية.
في مقابل هذه الصورة تعيش الولايات المتحدة حالياً حلماً نفطياً. فللمرة الأولى خلال عقدين تقريباً، فاق إنتاج النفط الخام محلياً ما استوردته البلاد في تشرين الأول 2013. وبفضل التكنولوجيا الحديثة وتقنيات التنقيب تكون البلاد قد رفعت إنتاجها النفطي بنسبة 50% منذ عام 2008.
ويتطرق صندوق النقد في تقريره عن مجلس التعاون إلى هذه القضية المحورية بالنسبة لمستقبل الخليج؛ بكلام آخر: ما تأثير إنتاج النفط من مصادر غير تقليدية في أميركا الشمالية على الإنتاج التقليدية في شبه الجزيرة العربية؟
يقول التقرير: «كان لتزايد إنتاج النفط غير التقليدي في الولايات المتحدة تأثير ملموس على موازين النفط العالمية ومن المتوقع أن يؤدي إلى انخفاض الطلب على نفط أوبك في المستقبل». واستناداً إلى الإنتاج الحالي والمشاريع الجاري تنفيذها، «هناك احتمال بارتفاع الطاقة الفائضة لدى أوبك إلى نحو 1 مليون برميل يوميا على المدى المتوسط لتحقيق التوازن في
السوق».
في الحقيقة يبدو أن مصير بلدان الخليج في سوق النفط مرتبطٌ باستمرارية طفرة الإنتاج الأميركي. السوق ستشهد لا شكّ ضغوطاً لخفض الأسعار خلال المدى المتوسط. أما التأثير المباشر على المصدّرين فسيكون متفاوتاً. حتى اليوم تأثرت البلدان منتجة النفط الخفيف الحلو، هكذا انخفضت صادرات الجزائر ونيجيريا إلى الولايات المتّحدة بنسبة بين 70% و80% خلال السنوات الخمس الماضية.
أما صادرات النفط السعودي ــ الثقيل والمرّ ــ إلى السوق الأميركية فقد حافظت على ثبات نسبي منذ عام 2010؛ مع العلم أن شركة «أرامكو» (شركة النفط السعودية) تملك حصصاً في المصافي الأميركية، ما يعني أن لها موقفاً تفاضلياً في هذا المجال.
لكن لا شي يمنع الولايات المتحدة من خفض استيرادها حتى من السعودية، وخصوصاً في ظلّ التفاوت الواضح في وجهات النظر حول المصالح الشرق أوسطية والعالمية.
ما يزيد صعوبة الوضع على حكومات الخليج هو أنه رغم توقعات الخبراء بأن الطلب على نفط «أوبك» سيعود للارتفاع في المدى الطويل، إلا أن «طفرة الغاز الصخري يمكن أن تسهم في إيطاء نمو الطلب على النفط» مجدداً يحلل خبراء الصندوق. ففي الواقع، قد تركّز البلدان الصاعدة الباحثة عن مصادر غير تقليدية للطاقة (مثل الصين، المكسيك والأرجنتين) على الغاز الطبيعي بدلاً من النفط.
«خلاصة القول أن دول مجلس التعاون الخليجي المنتجة تواجه مخاطر من إفراط العرض في سوق النفط على مدار سنوات عديدة قادمة» يختم خبراء صندوق النقد تحليلهم.
خلاصةٌ تعني أن حاجة العولمة إلى هذه البلدان النفطية إلى تراجع. لن تُصبح على هامش الاستراتيجيات الدولية في القريب العاجل ولكنها تتجه بخطى واثقة نحو بيت اليك!

توازنات غير صحيّة




ليس صندوق النقد الدولي الوحيد الذي قدّم مراجعات أخيراً حول وضعية البلدان النفطية في الخليج العربي أخيراً. يقول مصرف Standard & Chartered في تحليله الأخير عن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، إنّ هناك تناقضاً هائلاً بين التحديات الاقتصادية الاجتماعية التي تشهدها بلدان المشرق وتلك الواقعة شمال القارة السوداء، وبين «الفورة الاقصادية» التي تعيشها بلدان مجلس التعاون الخليجي.
ولكن رغم أنّ البلدان النفطية تثمل بأموال النفط والغاز نتيجة الدينامية الإقليمية والكونية التي تحكم هذا القطاع، إلا أنّها «تواجه تحديات طويلة الأجل»، بحسب معدّي التحليل.
مثلاً في السعودية، التي تُعد قائدة المجموعة النفطية، تخلق سياسة الاستثمارات طويلة الأجل في المشاريع التنموية أرباحاً مباشرة غير أنها تؤدّي في الوقت نفسه إلى مخاطر تضخمية وضعف في الإنتاجية (عندما يكون الخير وافراً من الصعب تحديد مكامن الضعف إلا لدى الوقوع في الحفرة!)
في المنطقة إجمالاً هناك ثلاث قضايا محورية يجب التطرق إليها لبحث المعطيات في المستقبل، تبدو وضعية البلدان الخليجية صعبة فيها.
أوّلاً، إصلاح أنظمة الإعانات الحكومية لخفض الضغوط التي تفرضها على المالية العامة.
هذه الإعانات تمثّل عبئاً مالياً على البلدان المستوردة للنفط في المنطقة وتشوّه الإنتاجية في البلدان المنتجة للوقود الأحفوري. والإعانات التي يجري بحثها هي على مستوى الطاقة تحديداً، حيث تدعم حكومات المنطقة أسعار المحروقات – والطاقة إجمالاً – بمبلغ يقارب 237 مليار دولار سنوياً أي ما يوازي نصف الدعم الإجمالي المسجّل كونياً في هذا الإطار، بحسب بيانات صندوق النقد.
صحيح أن هكذا إجراء قد يشكّل مصاعب في المدى المنظور إلا أنّه أساسي لضمان الاستقرار الاقتصادي العام في المدى المنظور. (للمفارقة، يُمكن لبلدان الخليج التقاط بعض العبر من إيران التي نفذت بنجاح سياسة خفض الإعانات الطاقوية وتلقت تهاني بالجملة من صندوق النقد الدولي قبل عامين!)
ثانياً، التحديات في مجال خلق فرص لعمل ومواجهة البطالة؛ هنا المعضلة الكبرى. بحسب البيانات المحدثة التي يستند إليها معدو التقرير فإن معدل البطالة في أوساط الشباب يتجاوز 23% في لبنان، يتخطى 25% في مصر والأردن ليقارب عتبة 30% في السعودية التي تتمتع بأكبر اقتصاد في المنطقة وهي أكبر مصدري النفط في العالم.
وفي حالة البلدان الخليجيّة تحديداً هناك توازن «غير صحي» قائم: يُعد القطاع العام مسؤولاً عن توظيف 90% من أبناء البلدان الخليجية في العديد من البلدان، فيما مستوى مشاركتهم في القطاع الخاص لا يتعدى 10% مع تولّي الأجانب الوظائف الحيوية في هذا المجال.
أما على مستوى البلدان غير النفطية، فالمشكلة تتمثل في ضعف القطاع الخاص تحديداً (أو القطاعين العام والخاص في إطار توليفة سياسية مدمرة وطنياً، كما الحال في لبنان).
ثالثاً، تحتاج المنطقة عموماً، وفقاً لتقرير المصرف نفسه، إلى أنظمة قضائية متينة تستطيع أن تشكل الدعم المؤسساتي اللازم لضمان تنقل الرساميل بين بلدان المنطقة لتنفيذ الاستثمارات
الحيوية.
مثلاً، استطاعت مصر الصمود اقتصادياً ونقدياً خلال محنتها الأخيرة بفضل دعم مباشر من ثلاثة بلدان خليجية (السعودية، الإمارات والكويت) فاقت 12 مليار دولار، منها ملياران عبارة عن شحنات نفطية، ولكن لكي تبقى تحافظ بلاد الفراعنة على استقرارها عليها ضمان بيئة مشجّعة – أحد أسسها النظام القضائي – لجذب الاستثمارات التي تشكل مصدراً مهماً من العملات الأجنبية.
فهل تمتثل البلدان المتحولة بنموذج العمل في الخليج لتحسين نظامها القضائي؟