وجهٌ آخر من وجوه «كامب ديفيد» تكشف عنه وثائق وكالة الاستخبارات المركزيّة، هو اضطرار الرئيس المصري السابق أنور السادات الى سلوك طريق التسوية واستعجال عقد اتفاقية سلام مع إسرائيل. والسبب، كما تشرح الوثائق، المأزق الاقتصادي الّذي كان يعاني منه السادات في مصر. وهذا الفشل الاقتصادي، حسب «سي آي إي» كان ناتجاً من تداعيات سياسات «الانفتاح» الّتي أوقعت مصر في عجزٍ ماليّ متعاظم وضعها ــ بشكلٍ كامل ــ تحت رحمة الدول العربية المانحة.
في تقرير التقييم الشامل الذي أعدّ عن مصر لعام 1977، يقول محلّلو «وكالة الاستخبارات المركزية» بوضوح إنّه ليس أمام السّادات خيارات كثيرة إن أراد البقاء في السلطة. وتذكر الوثيقة ما حرفيّته: «سيكون عام 1977 عام اختبارٍ للسادات: فهو قد رفع من توقعات شعبه بالنسبة للتحسّن الاقتصادي والتقدّم في مفاوضات السلام والحصول على أسلحة حديثة، وسيكون عليه أن يبدأ بتقديم بعض النتائج اذا شاء أن يستمرّ (في الحكم) حتى سنة 1978» (1). ثمّ تؤكّد الوثيقة في خلاصاتها أنّ «إمكانية إقصاء السادات عن الحكم ستتزايد إذا لم يحصل تقدّم ملموس في الظروف الاقتصادية أو تحريك لمفاوضات السلام»(2) .
كيف وصل السّادات الى هنا؟
تروي الأرشيفات الأميركية أنّ الحكومة المصرية كانت تصارع بيأسٍ لتغطية عجز الميزانية الذي خرج عن السيطرة، إذ «ارتفع عجز الميزان التجاري لمصر من 650 مليون دولار الى 2.5 مليار دولار بين عامي 1973 و 1975 ... وكلّ هذه الزيادة تقريباً ... يغطّيها الدعم الرسمي المقدَّم من الدول العربية المحافظة والمنتجة للنفط ــ السعودية والكويت والإمارات العربية المتحدة ــ وهي المصادر الوحيدة الراغبة والقادرة على توفير المبالغ المطلوبة»(3).
تجمع تقارير المخابرات الأميركية في تلك الفترة على أنّ سياسات الانفتاح الساداتية قد نجحت في خلق نخبة ثرية ومستفيدة من التحرير الاقتصادي والفساد المرافق له، وقد صارت هذه الطبقة من أوفى حلفاء النظام وركيزته الأساسية. ولكن سياسات اللبرلة الاقتصادية هذه لم تنجح في دفع التنمية والتوظيف ورفع مستوى الحياة لدى السواد الأعظم من الشعب المصري. بل إنّ النتائج كانت عكسية، فقد «أنفقت هذه الفئة أموالها على السلع المستوردة غالية الثمن وعلى العقارات وعلى أشكالٍ أخرى من الاستهلاك الفاضح، مما رفع أسعار الكثير من السلع والخدمات بعيداً عن متناول الأغلبية من الطبقة الوسطى المصرية، وولّد رغبة متزايدة باقتناء المواد الاستهلاكية المستوردة لدى الملايين من المصريّين القاطنين في المدن» (4).
كنتيجة مباشرة لسياسة الانفتاح، زاد الاستيراد المصري بمقدار الضعف خلال أقل من عامين، بين 1972 و 1974 (5)، واتّسعت ــ بشكلٍ موازٍ ــ «الفجوة المالية» لدى الحكومة المصرية حتى وصلت الى 2.7 مليار دولار عام 1976 (6). وبالرغم من أن الحكومة المصرية قد أقرّت، في عام 1974، «أكثر قوانين الاستثمار ليبراليّة في منطقة الشرق الأوسط» (7)، الّا أنّ حجم الاستثمارات الأجنبية والنمو الذي تحقّق كان أقلّ بكثير من توقعات السادات وطاقمه. لذا، ظلت الدولة ملزمةً بتشغيل وإعالة القسم الأكبر من الشعب المصري ــ الذي صار يعاني من تآكل دخله وانخفاض مستوى معيشته بفعل التضخّم وارتفاع الأسعار.

الدعم الخليجي

المفارقة هي أنّه، بحسب الوثائق، كانت رغبة السادات في التحرر من الاعتماد على الدعم العسكري السوفياتي والدعم المالي الليبي اللذين ورثهما عن مرحلة جمال عبد الناصر هي أبرز دوافعه لتبنّي سياسات موالية للغرب، فوجد نفسه وقد صار أكثر تبعيّة، ولمموّلين أقلّ تسامحاً.
تكشف وثيقةٌ من أواخر عام 1977 أنّ أكثر من ثلثي الدعم المالي الخارجي الذي تحتاج إليه مصر لتغطية عجزها يأتي من «المنظمة الخليجية للتنمية في مصر ... التي أُنشئت بإشرافٍ سعودي» (8).
غير أنّ هذه المساعدات كانت «مزاجيّة ومشروطة»، تقول الوثائق، إذ إن الدول المانحة رفضت أن تلتزم ببرامج مساعدات «مضمونة وطويلة الأمد»، وهي لم تصرف أموال المعونات التي أقرّت في قمّة الرباط ــ عام 1974 ــ إلا عاماً واحداً. هكذا صار الوضع المالي للسّادات مرتبطاً بمستوى علاقاته الآني مع الدول العربية النفطية. ففي عام 1975 مثلاً، انقطع الدّعم الخليجي بسبب الخلافات السياسيّة وضغط الممولين على السادات لإقرار إصلاحات اقتصادية، فاضطرّت الدولة المصرية الى اللجوء لاقتراض قصير الأمد من المصارف وإفراغ مستودعاتها من المواد المخزّنة «حتى أدى الضغط الغربي واقتراب خطر الإفلاس الى جولةٍ جديدة من المعونات النقدية من قبل الدول العربية الثرية» .
بعد أن خسر السادات القسم الأكبر من الدعم السوفياتي ودمّر علاقته بالرئيس الليبي معمر القذّافي، صارت الدول الخليجية هي المموّل الأساسي والوحيد لصفقات السلاح المصرية. ولتوضيح النفوذ الذي حازه الداعمون النفطيون على السياسة الدفاعيّة في مصر، تقول إحدى الوثائق إن «المملكة العربية السعودية صارت تطلب من مزوّدي السلاح توقيع عقدين منفصلين ــ وثيقة تقنية تفاوض عليها القاهرة وتوافق عليها الرياض، وعقد مالي تصادق عليه الرياض بمفردها».
هكذا وجد السادات نفسه، منذ أواسط السبعينيات، بلا خيارٍ باستثناء طريق التسوية الذي رعته الولايات المتحدة الأميركية ونسقته السعودية، خاصة بعد عقد المصالحة بينه وبين حافظ الأسد في قمّة الرياض عام 1976. القمة التي شهدت، بحسب الوثائق الأميركية، «إعادة تأسيس التحالف بين مصر وسوريا والسعودية والفلسطينيين والأردن»، وهو الحلف الذي كان يفترض به أن يفاوض الاسرائيليين في «مؤتمر جنيف» بغية تسوية النزاع العربي ــ الإسرائيلي بشكلٍ شاملٍ ونهائي. الّا أنّه، تحت وطأة الضغوط الاقتصادية المتزايدة وتقلّص فرص «جنيف»، اندفع السّادات في مغامرته الشهيرة فذهب ــ منفرداً ــ الى القدس وبعدها الى «كامب ديفيد».
(الأخبار)