ربما كان وصف الرئيس الصيني، شين جين بينغ، للعلاقات بين بكين وواشنطن بأنها «في مرحلة حساسة»، هو أقرب للصواب. فالرئيس الشاب الذي يمثل الجيل الخامس من أبناء الثورة الماوية، يدرك أن محادثاته مع نظيره الأميركي باراك أوباما، في كاليفورنيا أمس واليوم، ليست نزهة للترفيه، كما صوّرها المراقبون حين رأوا أنّ مكان اللقاء فرصة لترطيب أجواء الحوار بين العم سام والتنين الأصفر.
الثورة الشيوعية الصينية نجحت حيث فشلت الثورة البلشفية في روسيا، وصولاً إلى تفتت الاتحاد السوفياتي. نجاح لا يمكن فصله عن سياسة الصين الاقتصادية الليبرالية التي وصلت إلى مرحلة أصبحت فيها رافعة أساسية للاقتصاد الأميركي الذي تعرّض في السنوات الأخيرة لأزمة شديدة.
فبعد سنوات طويلة من المواجهة بين أكبر دولة رأسمالية وأقوى دولة نامية، قرر المحافظون الجدد السير في سياسة الاحتواء مع الصين، وصولاً إلى التعاون معها تحت عنوان «جبهة عالمية لمحاربة الإرهاب» بعد أحداث 11 أيلول 2001. ورغم العديد من الملفات الخلافية، ظلت العلاقة تسير في طريق التفاهم والاحتواء المُتبادل.
لكن على ما يبدو، إن الأزمات التي يعيشها العالم اليوم؛ إذ تتمرأى من خلال الاصطفافات الدولية وانعكاساتها في تصويتات مجلس الأمن على قرارات مهمة، لعل أبرزها يتعلق بالملف السوري والملف الكوري الشمالي، تؤكد كلام الرئيس الصيني منذ نحو أسبوعين لمستشار الأمن القومي الأميركي توم دونيلون، في بكين، بشأن حساسية المرحلة التي تمر بها العلاقات بين البلدين.
ثمة نوع جديد من العلاقات التي تظهر فيها الصين طرفاً قوياً وفاعلاً يحدّ من تمدد القطب الأحادي. علاقة قد يصح وصفها بالحرب الناعمة التي تدخل فيها عناصر جديدة لم تكن موجودة إبان الحرب الباردة؛ مثل الحرب الإلكترونية في العالم الافتراضي والمزاحمة التجارية والاستثمارية في ظل طفرة الأسواق المفتوحة.
من هنا لا يمكن استبعاد أهمية الاختراق الصيني الكبير لحصون الثروات الطبيعية في أفريقيا، عبر شركات كبرى تستثمر في حقول النفط والغاز والمناجم، أو اقتحام الحديقة الخلفية للعم سام، حيث باتت الصين الآن ثاني أكبر شريك تجاري لأميركا اللاتينية ومصدراً رئيسياً للاستثمار في المنطقة.
وليس من قبيل المصادفة أن يذهب الرئيس شي للقاء نظيره الأميركي بعد جولة حافلة بالاتفاقيات الاقتصادية شملت ترينيداد وتوباغو ودول الكاريبي الناطقة باللغة الإنكليزية وكوستاريكا وغيرها.
فالعين الصينية على الحديقة الخلفية للولايات المتحدة هي جزء من سياسة هذه الحرب الناعمة، التي تأتي مقابل اقتحام الولايات المتحدة للفناء الخارجي للصين في منطقة شرق آسيا والمحيط، الهادئ عسكرياً واقتصادياً وسياسياً.
الرئيس الصيني يدرك أهمية الدخول إلى مناطق غنية بالثروات والمواد الخام في دول لا تزال فقيرة؛ إذ تستطيع الشركات الصينية تقديم عروض استثمارات أرخص من عروض الشركات الأوروبية والأميركية. والسيطرة الاقتصادية تقود في أحيان كثيرة إلى تعزيز النفوذ السياسي وربما الأمني في تلك المناطق. لهذا، كان تعهد شي وزعماء صينيين آخرين في الفترة الماضية أن الصين مستعدة لتعزيز إقامة منتدى التعاون بين الصين وأميركا اللاتينية تمهيداً لتعميق شراكة التعاون الشاملة بين الصين والمنطقة.
الأرقام تؤكد هذا التعاون، حيث وصل حجم التجارة الثنائية بين الصين وأميركا اللاتينية إلى 261.2 مليار دولار أميركي في عام 2012، بزيادة 8.1 في المئة على أساس سنوي. ومن المتوقع أن تصل إلى 400 مليون دولار أميركي في 2017. ووصلت الاستثمارات الصينية هناك إلى نحو 65 مليار دولار وخلقت وظائف تشتد إليها الحاجة في المنطقة.
وكثفت الصين أخيراً استثماراتها في أميركا اللاتينية في الموارد المنجمية والمحروقات، وكذلك في البنى التحتية للسكك الحديدية والحديد والصلب. أما كوستاريكا فهي أول دولة في أميركا الوسطى تعترف بالصين الشعبية عام 2007.
وفي ظل المخاض العسير الذي تمرّ فيه منطقة الشرق الأوسط والعالم، بات الحديث يدور بنحو جدي حول ما يشبه المقايضة بين أميركا والصين، تدخل بموجبها الأخيرة إلى الشرق الأوسط مقابل تعزيز نفوذ الأولى الاقتصادي في شرق آسيا والمحيط الهادئ، وخصوصاً بعدما اتضح أن حاجة واشنطن للوقود الأحفوري من الشرق الأوسط تراجعت إلى مستوياتها الأدنى، في ظل الحديث عن اكتشافات حقول هائلة تحتوي على مصادر الطاقة من النفط في الولايات المتحدة.
وفيما تشهد مياه البحر الأبيض المتوسط لأول مرة دخول الأسطول العسكري الصيني، أعلنت واشنطن أن «البنتاغون» سيعيد نشر قواته البحرية بحيث تتمركز 60 في المئة من سفنها القتالية في منطقة آسيا - الباسفيك بحلول نهاية العقد الحالي ارتفاعاً من نحو 50 في المئة حالياً.
تصريح عدّته صحيفة جيش التحرير الصيني أنه «بعد أن يكتمل هذا النشر والتعديل العسكري الجديد فإن شدة التدخل الأميركي في شؤون آسيا ــ الباسفيك ستزيد بالتأكيد».
ربما لهذا السبب عاد الملف الكوري الشمالي بشدة إلى واجهة الأحداث منذ شهور بتجربة نووية وصاروخية وتهديدات ومناورات متبادلة بين الدولة الستالينية من جهة والولايات المتحدة وحلفائها الكوريين الجنوبيين واليابان من جهة ثانية، الأمر الذي خلق مناخات من التوتر والاستنفار المتبادل في شبه الجزيرة الكورية.
الأحجية هي أن بكين تستخدم بيونغ يانغ كورقة هامة ورابحة في عقد صفقاتها الدولية، لكن الامتعاض الصيني من كوريا الشمالية في الفترة الأخيرة على خلفية تجربتها النووية وتصويت بكين إلى جانب الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن على عقوبات تطاول حليفتها، كان من شأنه تسهيل مخاض التسويات الجديدة، ولهذا انبرت بيونغ يانغ أمس لتعيد الخط الساخن مع سيول بعد إعلان استعدادها للتفاوض معها.
بيونغ يانغ أيضاً تستفيد من دعم دولة قوية اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً وعضو دائم في مجلس الأمن، مثل الصين.
ويبدو أن الزعيم الشاب الكوري الشمالي كيم يونغ إيل، الذي يملك ترسانة عسكرية هائلة قوامها الصواريخ الباليستية وقنابل البلوتونيوم الذرية، قد بدأ معركته هذه تمهيداً للتفاوض والحصول على مكاسب أكثر، تعزز زعامته محلياً وتجعل منه قطباً فاعلاً في المنطقة. لذلك، كانت وفادته لمسؤول كبير إلى بكين منذ نحو شهر أي قبل زيارة شي للولايات المتحدة، وكأنها تؤكد سعيه إلى «عدم الخروج من المولد بلا حمّص»، على حد قول المثل العربي.
السفير الصيني لدى الولايات المتحدة تسوي تيان كاي، رأى أن القمة الحالية بين شي وأوباما تُعَدّ «لقاءً استراتيجياً وتاريخياً» سيحدد مسار التنمية المستقبلية للعلاقات الثنائية.
فالقمة الحالية التي سبقتها لقاءات عديدة وتحضيرات منها زيارة دونيلون ووزير المالية جاكوب لو (في آذار) ورئيس هيئة أركان الجيوش الأميركية مارتن دمبسي، ووزير الخارجية جون كيري في نيسان الماضي لبكين، سبقتها أيضاً زيارات وتفاهمات عسكرية وأمنية.
الواضح أن موضوع الأمن على رأس جدول المحادثات بين الزعيمين، بما في ذلك حفظ السلام والإغاثة من الكوارث ومكافحة القرصنة، وخلافات الصين حول الأراضي مع اليابان عقب قيام دول مجاورة لها في جنوب شرق آسيا بطلب مساعدة من الولايات المتحدة. طبعاً من دون إغفال الملف السوري، القضية الأهم في الصراع الدولي اليوم.
لكن الملف الأكثر تعقيداً بين البلدين سيكون ملف الأمن الإلكتروني، بعد صدور تقرير أميركي يتهم قراصنة معلوماتية صينيين اخترقوا شبكات تضم مخططات الأسلحة الأميركية، بما يشير الى إمكانية رسم حدود الحرب الناعمة بين البلدين.
فإعلان الصين أنها «قادرة تماماً على صنع الأسلحة والمعدات اللازمة للدفاع عن أمنها القومي»، وإشارتها إلى الطائرات المطاردة التي أطلقتها أخيراً، يصبّ في مصلحة التأكيد أنها لا تحتاج إلى تقنيات الولايات المتحدة التي تتهمها بسرقة تصاميم نظام صواريخ باتريوت ونظام رادار «ايجيس» الفائق التطور وطائرة «أف-18» المطاردة ومروحية بلاك هوك وخطط تطوير مقاتلات «اف 35» الفائقة، حسب صحيفة «واشنطن بوست».
إذن، جولة الرئيس شي في أميركا اللاتينية والكاريبي وقبلها بفترة قصيرة في القارة السمراء، واهتمامه بما يجري في الشرق الأوسط، عززت حضور بلاده سياسياً واقتصادياً في مناطق عديدة من العالم، ليصل إلى كاليفورنيا متسلحاً باتفاقيات ومعاهدات تعاون تؤكد ما قالته صحيفة «غلوبال تايمز» الصينية الرسمية من أنه «بينما تستقر الولايات المتحدة في مناطق نفوذ الصين تحذو الصين حذوها وتفعل مثلها». وربما ليس من قبيل المصادفة أن يقوم أوباما وزوجته ميشيل بزيارة لتنزانيا ودول أفريقية نهاية حزيران الجاري. فكل زيارة صينية لمناطق الأطراف تقابلها زيارة أميركية، والعكس صحيح في ظل منافسة حامية على تعزيز النفوذ.
الأرجح أن قمة التنين الأصفر والعم سام ليست مجرد نزهة في «رانشو ميراج» في كاليفورنيا (160 كيلومتراً شرق لوس أنجلوس)، بل هناك بالفعل «مرحلة حساسة للبناء على النجاحات السابقة وفتح آفاق جديدة للمستقبل» مع الولايات المتحدة، على حد قول الرئيس الصيني.
ثمة بوادر حرب ناعمة بين واشنطن وبكين رغم هذا التعاون الاقتصادي الخلاق، وخصوصاً بعد استبعاد فكرة المواجهة أو الاحتواء بين القوتين.



رئيس أكثر مرونة

رأى مسؤول أميركي رفيع المستوى «أن مثل هذه المحادثات غير الرسمية في مطلع ولايتي الرئيسين (باراك أوباما وشي جين بينغ) ستتيح لهما عرض برنامج عمل أوسع بكثير». لكن المصدر نفسه أضاف أن أوباما «يريد أيضاً إقامة علاقة يمكنه الاعتماد عليها بشكل كبير في السنوات المقبلة». كذلك أعرب الجانب الأميركي عن استغرابه، مع الترحيب بأن الجانب الصيني المعروف بتعلقه بالبروتوكول لم يشترط كالعادة زيارة رسمية بكل ما يواكبها من مراسم. وشدد الجانب الأميركي على أن الرئيس الصيني الجديد (59 عاماً) يبدو أكثر مرونة، وذلك خلافاً لأسلافه، وخصوصاً هو جينتاو، الذي كان معروفاً بعدم خروجه عن «العبارات» الرسمية. ونُظمت تظاهرات معادية للرئيس الصيني أمس في «رانشو ميراج». وطالبت أُسر معتقلين ومدافعون عن حقوق الإنسان أوباما بحثّ بكين على إطلاق سراح 16 موقوفاً.
(أ ف ب)