إسطنبول | تساؤلات كثيرة حملتها موجة المواجهات الدامية في تركيا على مدى اليومين الماضيين، تبدأ بمحاولة استبيان ما حصل، في ظل عدم التناسب الواضح بين الفعل وردّ الفعل، ولا تنتهي باستشراف «ربيع تركي» يسعى البعض للتبشير به، فيما ينفي بعض آخر أي إمكانية لحصوله. المعلومات متضاربة، لكن الثابتة الوحيدة هي: سقط حاجز الخوف الشعبي من هذا «الغول» الذي سيطر على البلاد بكل مفاصلها، بل استطاع أن يطيح المارد العسكري الذي هيمن على الحكم منذ ولادة الجمهورية الأتاتوركية، وزج بجنرالاته في السجون. الباقي تفاصيل مرشحة لأن تتفاعل خلال الأيام المقبلة، وإن كان الرأي الغالب أن رجب طيب أردوغان لا يزال هو المسيطر في ظل الغالبية البرلمانية الساحقة التي يملكها، والتي تخوله حق فرض ما يريد باستثناء تعديل الدستور بما يمكّنه من تغيير النظام السياسي ليجلس على كرسي الرئاسة في شنقايا (بحاجة إلى غالبية ثلثين).
لكن تلك التفاصيل لا تحجب أن ما حصل مثّّل مفاجأة لجميع المراقبين. بدا واضحاً أن الحكاية «ليست رمانة بقدر ما هي قلوب مليانة»، على ما يقول المثل الشعبي. تحويل ساحة عامة إلى مجمع تجاري لا يستأهل مئات الجرحى والمعتقلين، ولا نزول الناس إلى الشوارع في 47 ولاية، ولا استخدام الرصاص المطاطي والغازات الخانقة والحارقة. أردوغان سعى إلى إلقاء اللوم على حزب الشعب الجمهوري ورئيسه كمال كليجدار أوغلو.
لا بد أنها نزعة التملك والهيمنة التي مارسها أردوغان خلال سنوات حكمه، والتي تمظهرت في أسوأ أوجهها في وسائل الاعلام الخاصة التي تحولت بمعظمها الى ناطق رسمي باسم الحكومة ورئيسها، فضلاً عن وضع الإعلاميين في السجون ومراقبة هواتفهم ومراسلاتهم الإلكترونية وملاحقتهم من قبل أجهزة الأمن. أو لعله تدخل أردوغان وحزبه في الشؤون الشخصية للأفراد، على غرار القرارات الأخيرة للحكومة بمنع شرب الكحول.
بل ربما السبب يعود إلى الامتعاض الشعبي من سياسة الحكومة تجاه الملف السوري حيث تشير بعض استطلاعات الرأي إلى أن أكثرية شعبية من 80 في المئة غير راضية عما يجري. كمال كليجدار أوغلو كان الأكثر جرأة. قالها بوضوح: سياسة الحكومة تجاه سوريا باتت تمثّل خطراً على الأمن الوطني والقومي لتركيا. وكان ردّ أردوغان، على عادته، يتّسم بالعنف والاستفزاز. اتهمه «بدعم الرئيس السوري بشار الأسد لكونه علوياً مثله». يعتقد البعض بأن مهاجمة أردوغان حزب الله وإيران «الشيعية» تمثّل سبباً آخر في التوتر الشعبي التركي من رئيس الوزراء. في النهاية هناك نحو 20 مليوناً من المواطنين الأتراك ممن ينتمون إلى الطائفة العلوية، وإن عرفوا عبر تاريخهم بأنهم كانوا من أشد المدافعين عن العلمانية في البلاد. يستشهد هذا البعض بردّ فعل هؤلاء على تسمية أردوغان، قبل أيام، الجسر المعلق الثالث على البوسفور باسم السلطان سليم المعروف بأنه قتل عشرات الآلاف من العلويين الأتراك والأكراد جنوب شرق البلاد عام 1514 وقاتل الدولة الصفوية الشيعية واحتل سوريا (1516) ومصر 1517 وأصبح خليفة للمسلمين السنّة.
يعتقد الكثير من المثقفين الأتراك أن أردوغان يحلم بأن يكون خليفة للسلطان سليم من خلال تحركات «الربيع العربي» ووصول «الإخوان المسلمين» الى السلطة في ليبيا وتونس ومصر، وأنه لم يبق أمامه إلا سوريا حتى يحقق حلمه. بل يذهب البعض إلى أن هذا الحلم هو الذي يفسر استعجال أردوغان صفقته مع زعيم حزب العمال الكردستاني عبدالله أوجالان لضمان بقاء الأكراد، وعددهم حوالى 15 مليوناً على الحياد، في حربه ضد المعارضة العلمانية، السنيّة منها والعلوية.
أياً يكن من أمر، يبقى الإجماع على أن أردوغان لا يزال قوياً، متعجرفاً، ولن يقبل التنازلات. في النهاية، لا يزال يحظى بالدعم الأميركي السياسي والاقتصادي والنفسي، الذي لولاه لما استطاع العدالة والتنمية البقاء في السلطة. فـ66 في المئة من الاستثمارات في بورصة إسطنبول هي أموال أجنبية، كما هي الحال بالنسبة إلى القطاع المصرفي و70 % منه في أيدي الأجانب. ماذا يعني ذلك؟ يعني ببساطة، أن أردوغان، الذي باع على مدى السنوات الماضية كل القطاع العام التركي، بات رهينة هذه الأموال والاستثمارات التي سيؤدي سحبها من البورصة والمصارف حتماً إلى انهيار اقتصادي لن يبقي أردوغان ولا عدالة وتنمية. في النهاية، جاء هذا الحزب على خلفية انهيار اقتصادي عصف بالبلاد مع إطلالة الألفية الحالية، واستمر في الحكم بفضل «إنجازاته» الاقتصادية.
كان لافتاً في كل هذه المعمعة أن العديد من الصحف التركية والأميركية والبريطانية عكست هذه الأجواء، لكنها اختلفت حول مآلاتها: ربيع تركي أم لا؟ أنصار الـ«نعم» عدّدوا أسباباً «اجتماعية وثقافية وخوفاً من أسلمة الدولة» إضافة الى القضية الكردية التي «لا تبدو آفاق تسويتها واضحة بعد». أما أنصار الـ«لا»، وجميعهم من وسائل الإعلام التركية، فردوا على تلك التحليلات بالقول إن «الحديث عن ربيع تركي هو أمر مبالغ فيه»، وإن اضطر بعض المحللين الأتراك إلى الاعتراف بأن الأحداث الحالية «تمثّل انعطافة في طريقة تقديس صورة أردوغان وحزبه».
ومع ذلك، انصبّ الإجماع على فكرتين: الأولى «أنه بعد الأحداث الأخيرة بات لجوء الأتراك الى الشارع أسهل من ذي قبل». أما الثانية، فإن التظاهرات الأخيرة «تظهر الى أي مدى يوجد تباعد بين آراء المواطنين الأتراك ورؤى حزب «الحرية والعدالة» الحاكم.