في صالة الانتظار المكتظة في إحدى مدن ولاية ماساتشوستس، جلس الشاب المفتول العضلات أمام آلة بيانو وعزف طوال ٢٠ دقيقة معزوفة كلاسيكية. لم ينتبه الشاب، الآتي كي يتسجّل في دورة ملاكمة، أن الموجودين تحلّقوا حوله خلال العزف، إذ كان مأخوذاً بالموسيقى التي أدّاها. صفّق له الحضور بإعجاب، قبل أن ينادي باسمه موظف تقديم الطلبات: «تاميرلان أنزوروفيتش تسارناييف».
عندما انهار الاتحاد السوفياتي، كان عمْر تاميرلان ٦ سنوات (مولود في 1986). تعلّم عزف الموسيقى في مدرسته في قيرغيزستان السوفياتية، ونمّى فيها، وفي نادي بلدته، رياضة أحبّها منذ الصغر، هي الملاكمة. كان تاميرلان الأول دائماً، في الدراسة وفي صفوف الموسيقى وفي مباريات الملاكمة. تفوّق الصبيّ الشيشاني الآتي من شمال القوقاز على زملائه القيرغيزيين وانتزع لقب «البطل» مذ كان طفلاً. افتخرت والدته زبيدة به، وعلّق والده أنزور الميداليات الرياضية في غرفة المنزل الرئيسية.
تفكك النظام الاشتراكي وكبُرَ الطالب المتفوّق في ظلّ أزمة اقتصادية واجتماعية اجتاحت مجمل الجمهوريات السوفياتية السابقة، وترافقت مع نزاعات دينية متفرقة. عاش تاميرلان ووالداه وإخوته الثلاثة سنوات ترحال بين الشيشان وقيرغيزستان وداغستان طيلة عشر سنوات هرباً من الأزمات المتنقلة، الى أن وصلت الرسالة الأولى من العمّ رسلان. الرسالة جاءت من الولايات المتحدة، حيث هاجر شقيق أنزور منذ عام ١٩٩٥، تبعتها مجموعة رسائل تصف حياةً أفضل وأموالاً أكثر وتحثّ أنزور وعائلته على المجيء الى «أرض الأحلام». وبعد سبع سنوات هاجرت عائلة تسارناييف، المؤلفة من الوالدين والأشقاء الأربعة (تاميرلان، جوهر، بيلّا وإيلينا)، وحطّت في منطقة كامبريدج في مدينة بوسطن الاميركية عام 2003.
عَمِل الوالد في تصليح السيارات والوالدة خصصت زاوية من المنزل للاعتناء بوجوه السيدات وتدليكها. قصد الأولاد مدرسة حكومية مجاورة. تاميرلان وجوهر اختلطا سريعاً مع محيط متنوّع الجنسيات في منطقة سكنهم وفي المدرسة. «كان لتاميرلان أصدقاء من الأميركيين الميسوري الحال ومن المهاجرين الفقراء... كنّا نخشى هامته الطويلة وبنيته الجسدية، لكنك تراه دائماً يلفّ ذراعه بودّ حول كتف صديق ويلقي نكاته المرحة فيضحك الجميع»، قال عنه بعض رفاق المدرسة والحي.
اندمج الشقيقان في نمط الحياة الاميركية وعاشا مراهقة شبه طبيعية كباقي رفاقهم. حفلات صاخبة ونشاطات مع الأصدقاء مع تميّز بنشاط رياضي في المدرسة. لم يخف الشقيقان ديانتهما ولم يفرضاها على أحد. «كنا نعرف أنه مسلم، لكن هذا كان تفصيلاً ثانوياً جداً في حياته اليومية وفي علاقاته معنا»، يقول أحد رفاق تاميرلان أيام المدرسة. كان الشقيق الأكبر يقول إنه يريد أن يدرس الهندسة والحقوق، لكنّ ولعه الأصلي كان... بالملاكمة.
حرص تاميرلان على الحفاظ على لياقته البدنية وجعل من قطع غيار السيارات وبعض قطع البناء آلاته الرياضية يتمرّن بها في أزقّة الحيّ. أهل الحيّ أدلوا بشهادات متفاوتة عن آل تسارناييف. «الشابان عاشا حياةً صاخبة لكن طبيعية نسبة إلى عمريهما»، قال البعض، بينما اشتكى البعض الآخر من «حدّة طباع» الوالد الذي كان يصلّح السيارات في أماكن الركون الخاصة بسكّان الحي، فيحجزها طوال اليوم. لكن جيراناً آخرين يذكرون كيف اندفع أنزور وانتشل أحد المارين عن الطريق العام، بعدما صدمته سيارة، «غير آبه بحياته هو». «كان فقيراً وطيباً ويعمل بكدّ ليعيل عائلته»، يقول من عرفوه من الجيران وزملاء العمل. جهد الوالدان في العمل، لكن من دون إمكانية للادخار أو للحصول على تأمين صحي مناسب، والفقر لازمهم طوال الوقت. أدرك تاميرلان سريعاً أن ذلك ليس «الحلم الاميركي» الذي وُعد به قبل أن يغادر بلاده والذي سمع عنه الكثير منذ أن وطئت قدماه الأراضي الاميركية. لذا قرر أن يسعى وراء حلمه القديم ويستفيد من لياقته البدنية ليصبح ملاكماً حقيقياً.

«المغرور القوي»، هكذا لقّبه صاحب نادي الملاكمة ورفاقه في النادي ومنافسوه. ويروي المدربون واللاعبون أن تاميرلان كان واثقاً بقدراته البدنية الى حدّ كان يرفض استخدام أي وسيلة حماية (حتى على الفكّين والمناطق الحساسة)، وكان يعتمد على مدرسة مختلفة في الملاكمة أثارت انتباه الجميع.
وبالفعل، خاض تاميرلان مباريات عدة وفاز مرتين على التوالي بلقب «بطولة القفازين الذهبيين عن فئة الوزن الثقيل» على صعيد منطقة نيو إنغلند. علّق البطل الشيشاني ميدالياته على جدران المنزل وأدخل لحظات فرح وفخر الى العائلة الغارقة في نمط الحياة القاسي والسريع. لكن فرحة الشاب «المغرور» لم تطل. في عام 2010 أُقصي تاميرلان عن بطولة الملاكمة الوطنية لأنه ليس أميركياً! لم تشفع لتاميرلان لياقته البدنية وقوته ومثابرته وتفوّقه وكل ما حققه من انتصارات وألقاب... فأُخرج من الحلبة فقط لأنه مهاجر شيشاني. انكسر الحلم مرة جديدة وهذه المرة كانت قاضية. اعتزل البطل الملاكمة. يقول من واكب الشاب في تلك المرحلة إنه تأثر بشكل دراماتيكي وشكّل الأمر صدمة له. لكن تاميرلان رفض الاعتراف بتأثره وقال لأصدقائه إنه ترك الملاكمة لأنها «لا تتناسب مع معتقداته الدينية» المستجدة.
تاميرلان بدأ يتعلّم القرآن قبل سنتين من حادثة الملاكمة، نزولاً عند طلب والدته وإلحاحها «للتخلي عن نمط الحياة المتراخي والعودة الى الدين». يقول عمّ تاميرلان، إن ابن شقيقه «تغيّر جذرياً عام ٢٠١٠ من حيث السلوك والمظهر وكلامه المتزايد في الدين وتخليه عن الرياضة». ويشير الى أنه تأثر جداً برجل أرمني مسلم كان يزوره باستمرار. وبينما رفض الوالد مسار ابنه المتديّن الجديد، كانت الوالدة (التي ارتدت الحجاب في السنة نفسها) راضية ومشجّعة لابنها. وفي ذلك العام، تخلّى تاميرلان عن حلم الملاكمة وأيضاً عن شغفه بالموسيقى، عزفاً وسماعاً.

بعد فترة وجيزة تزوّج الشاب من فتاة أميركية اعتنقت الاسلام وارتدت الحجاب. وعندما أنجبا زاهرة، لازم تاميرلان المنزل بينما عملت زوجته لتعيل العائلة. جيران الثنائي لم يشتكوا منهما إلا عندما تحوّل حديث تاميرلان في كل فرصة سانحة الى «هداية للدين الإسلامي» و«مهاجمة الديانات الاخرى». بعض من شاركه في الصلاة في أحد مساجد المنطقة رووا حادثتين هاجم فيهما تاميرلان إمام المسجد لأن الأخير دعا الى احترام العطل الدينية والوطنية الخاصة بالاميركيين، ومرة أخرى لأنه امتدح مارتن لوثر كينغ.
تبدّل حياة الشقيق الأكبر رافقته خلافات بين والديه أدت الى انفصالهما وعودة والده الى داغستان. أنزور «لم يشأ أن يموت غريباً» في الولايات المتحدة، كما قال، فعاد الى بلاده بعد أن أصيب بالسرطان.
قرر تاميرلان عام ٢٠١٢ أن يزور داغستان بدوره، ومكث هناك ٦ أشهر. والده يقول إنه كان يذهب ليصلّي في مسجد للسلفيين، وعمته ذكرت أنه كان يحدثها في الدين دائماً.
بعد داغستان، عاد تاميرلان الى عائلته الصغيرة في بوسطن بلحية طويلة ما لبث أن أزالها بعد أيام. وفي صباح يوم الاثنين 15 نيسان، حلق الشاب لحيته، ودّع طفلته، وتوجه الى ماراثون بوسطن. بعد التفجير، هاتف تاميرلان أحد عمومه المتخاصم معه منذ سنوات، قال له: «أريد أن يكون لي عمّاً.. أحبّك».

جوهر الفتى المبتسم

شقيق تاميرلان الأصغر (مولود في 1993)، عاش الظروف العائلية نفسها، وكوّن مجموعة أصدقاء في الحي والمدرسة، لكنه لم يمِل الى التديّن كما فعل أخوه الأكبر. جوهر كان «خفيف الظلّ دائم الابتسام» يشارك في حفلات الحيّ والمدرسة ويشرب الكحول، يقول رفاقه. لم يتفوّق جوهر في العلم، لكنه أتقن لعبة المصارعة وأصبح قائد فريق كامبريدج. التحق جوهر بكلية الهندسة ثم تحوّل الى علوم الحياة في جامعة ماساتشوستس «بهدف أن يصبح طبيباً». لكن معدّل علامات الطالب الشيشاني كان منخفضاً، وفضّل تمضية وقته بالسهر أو بلعب كرة القدم. قبل أسبوعين من التفجيرات صارح أحد رفاقه بالقول «لم أعد أهتمّ بتحصيلي الجامعي لأن الله والدين هما الأمران الحقيقيان في الحياة فقط». لكن، عدا ذلك، ظلّ جوهر يتصرف على طبيعته ولم يلاحظ رفاقه أي تغير في سلوكه. عاد جوهر من الماراثون وتوجّه الى النادي الرياضي، جلس على أحد المقاعد شارداً وفي أذنيه سمّاعتان. اقترب منه أحد الأصدقاء وسأله: «أرأيت ما حصل في الماراثون اليوم؟»، أجاب جوهر «المآسي تحدث دائماً... مآسٍ كهذه تحدث طوال الوقت».



زبيدة وميشا

معظم التقارير الصحافية تشير الى دور بارز لوالدة تاميرلان، زبيدة (الصورة)، في تغيير حياة ابنها وتحويله الى متديّن. الأم الشابة التي عملت بكدّ الى جانب زوجها لتربية الأولاد، أرادت «إنقاذ ولدها من الضياع». زبيدة ترى اليوم أن «الاستخبارات الاميركية هي التي أوقعت بولديها»، وأن التفجيرات هي «مؤامرة». بعض وسائل الإعلام قالت أخيراً إن السلطات الروسية سجلت مكالمة «مثيرة للشكوك» بين زبيدة وابنها تاميرلان عام 2011 ، ما عزز شكوك الروس في تطرف الابن. الشخص الغامض والمؤثر الآخر في حياة تاميرلان هو ذاك الأرمني المسلم المدعو «ميشا» الذي يعتقد أنه ساهم في «غسل دماغ» الشاب. زبيدة تقول إن ميشا «لم يكن سوى صديق ضالع في أمور الدين وليس متطرفاً».