مثّل الساحل الجنوبي لبحر الكاريبي ملاذاً آمناً للمهاجرين من سواحل شرق البحر الأبيض المتوسط منذ قرابة القرن. وكان مهاجرو الجيل الأول الآتون من بلاد الشام وعكا يصلون أرض بوليفار بوثائق سفر من الحاكم العثماني وقتها، ما أكسبهم لقب «التوركوس»، وهو نعت يرافقهم غالباً حتى اليوم.
إن كان الجيل الأول من التوركوس قد فقد الاتصال ببلاده الأم نظراً إلى صعوبة السفر البحري وطول المسافة، فإن الأجيال اللاحقة أبقت التواصل أكثر فأكثر بالبلاد، ولا سيما بالمشتعلة منها سياسياً وأمنياً منذ عقود، وطبعاً تمثل فلسطين القضية الأبرز التي لطالما ربطت جاليات وأجيالاً بأرض تعيش في صميم ذكرياتهم.
تاريخياً، دَعَمَ العرب المغتربون القضية فردياً، وغالباً بعيداً عن سياسة البلد المضيف. وشكل الدعم اختلف على مدى السنين وتغير مع التحولات التي كانت تضرب المنطقة. سياسة الساحل الشمالي لجنوب أميركا، فنزويلا وكولومبيا تحديداً، كانت على مدى الحرب الباردة خانعة لواشنطن ولسياساتها الاستعمارية. واستفاد الوافدون من الشرق عبر إنشاء دكاكين استعمارية في بلاد غنية، لكن مفتقرة إلى التنمية، وهو ما سمح لهم بالثراء السريع بعيداً عن حروب الوطن وهمومه. وطبعاً حجّة المستعمر، دولة كان أو دكاناً، هي نفسها وهي تطوير البلاد وإيجاد فرص عمل تبقي لشعوب البلاد من الجمل أذنه، لكن هذه كانت سياسات الدول وليس المهاجرون العرب مَن فرضها.
مع صعود نجم تشافيز ووصوله إلى سدّة الحكم في فنزويلا أواخر القرن المنصرم، تغيّرت سياسة فنزويلا الخارجية، وتبعتها بلاد عديدة، وأصبح مَن في الحكم فيها يناصرون العرب من باب مواجهة الامبريالية الأميركية. المودّة التي كسبتها سياسات تشافيز على الصعيد الشعبي في البلاد العربية كانت نتيجة مباشرة لهذا التغيير النوعي في التعامل مع إمبراطورية عصرنا.
لكن هذا التغيير مثّل معضلة لعرب فنزويلا، فلم يبق ممكناً أن يتلطّوا خلف ذريعة أن سياسة «البلاد» شيء وسياسة «شعبهم» شيء آخر. التحول السياسي شمل أيضاً السياسات الاقتصادية لفنزويلا. وكان الاتجاه التشافيزي نحو الحفاظ على ثروة البلاد لشعبها، ومَن اندمج مع الشعب، ما عرقل أعمال الشركات الأجنبية ورجال الأعمال الأجانب الذين كانت أولوياتهم تنحصر في شحن رأس المال إلى خارج البلاد. يقع جزء كبير من عرب فنزويلا ضمن هذه الفئة.
بعد أربعة عشر عاماً من التشافيزية، ورغم الإنجازات الضخمة التي حققتها من خلال تحسين توزيع الثروة والتنمية الداخلية، فنزويلا اليوم تعاني أزمة نقدية تفاقمت على مدى السنة الماضية. فالشح الحاصل في توافر العملات الصعبة ينذر بتضخم كبير وقد ألقى بثقله على الأعمال في البلاد، ولا سيما منها تلك التي لها علاقة بالخارج.
ازدواجية المعايير السياسية، وعدم انسجام تطلعات عرب فنزويلا لما يبغونه لبلادهم مع تصرفاتهم، في الكثير من البلاد التي لجأوا إليها كمهاجرين، يعودان إلى اسباب عديدة لا تختلف عما نشهده من مفارقات محلياً. فالتفاحة لا تسقط بعيداً عن شجرتها حتى لو حطّت في الجانب الآخر من الكرة الأرضية.
وهنا يجد العديد من عرب فنزويلا أنفسهم في انتخابات الأحد أمام خيارين: أنريكي كابريليس اليميني المقرّب من واشنطن وصديق الاقتصاد المعولم والمدولَرْ، أو نيكولاس مادورو، رفيق درب هوغو تشافيز مناصر قضاياهم، وإنْ كان على حساب جيوبهم.