لا تكاد فرنسا تطوي ملف فضيحة تطاول سياسييها حتى تظهر فضحية جديدة تهز الوضع السياسي في البلاد المترنحة بفعل الازمات الاقتصادية التي تجتاحها. الدولة الاستعمارية المتغنية دوماً بالديموقراطية وحرية التعبير واحترام القضاء ــ عناوين تدخلها في شؤون العديد من دول العالم النامي من مالي إلى سوريا، يبدو أنها بحاجة إلى وصاية تحمي الحرية وحقوق ومبادئ دولة القانون والشفافية المنتهكة فيها إلى أبعد الحدود. سجل الفضائح ابتدأ مع رؤساء «الجمهورية الخامسة» ولم يسلم منه أي من الرؤساء الاربعة الذين تناوبوا على السلطة قبل الرئيس الحالي فرانسوا هولاند. من فضحية رشوة الرئيس جيسكار ديستان من قبل امبراطور افريقيا الوسطي بوكاسا بجواهر ثمينة، وانتحار وزير الاسكان في حكومته بسبب تسجيل اراض عقارية باسم زوجته، إلى فضائح الرئيس فرنسوا ميتران من علاقته القوية مع اعضاء نافذين في حكومة فيشي، (واشخاص آخرين)، إلى اكتشاف ابنة له من علاقة غير شرعية، وانتحار رئيس وزرائه بيير بيرغفوا في ظروف غامضة، وكذلك مستشاره وامينه المالي دوكروسوفر. الرئيس جاك شيراك سجل عهده العديد من الفضائح من تلك المعروفة باسم «كلير ستريم» بالاشتراك مع رئيس وزرائه دومينيك دوفيلبان، إلى قضايا الفساد والكسب غير المشروع. وانتهاءً بالرئيس نيكولا ساركوزي الذي ادين اخيراً بتهمة «استغلال الضعف» بحق المليارديرة ليليان بيتانكور، والمدان ايضاً بتسهيل حصول قطر على استضافة كأس العالم بطرق ملتوية بالاضافة إلى الاتهامات بتمويل حملته الانتخابية الرئاسية الاولى من العقيد معمر القذافي.
ولم تكن الفضيحة الاخيرة للحكومة الفرنسية برفض القرار القضائي بالافراج عن الاسير جورج عبد الله الضربة المعنوية الوحيدة لصورة الحكومة «العادلة»، بل سجل تهرب وزرائها من الالتزام «الاخلاقي» تجاه الدولة الفرنسية ضربة وضعت الرئيس فرانسوا هولاند وحكومته في موضع مساءلة لن تكون اقالتها كما يطرح نهاية للملف.
فما كادت الحكومة الفرنسية تحاول لملمة ذيول قضية وزير المالية السابق، جيروم كاهوزاك، من التهرب الضريبي وتملك امين صندوق الحملة الانتخابية للرئيس، جان جاك اوجييه، اسهماً في شركات «اوف شور»، حتى جاء كشف صحيفة «ليبراسيون» عن «فضيحة» مالية جديدة قد يكون وزير الخارجية لوران فابيوس ضالعاً فيها، ليستمر معه «الكابوس» الذي تعيشه الحكومة الفرنسية التي تحاول اعادة ثقة الجمهور اليها عبر قانون يفرض الاعلان عن الاصول المالية لوزرائها.
«ليبراسيون» ادعت، في خبر لم تتأكد صحته بعد، امتلاك فابيوس حساباً مصرفياً في سويسرا، مشيرة إلى أن موقع «ميديا بارت» الذي كان وراء العديد من الفضائح التي هزت هرم السلطة في فرنسا قد يكون بجعبته دليل على أن فابيوس يملك حساباً أو حسابات في الخارج، مضيفةً أنه ومنذ أيام يردد رئيس الموقع وأحد مؤسسيه إيدوي بلينال أنه سيكشف عن «فضيحة جمهورية» قريباً. فابيوس بادر إلى تكذيب الخبر «الذي لا يرتكز على أي عنصر مادي ولا أساس له على الإطلاق» بحسب رأيه. لكن رواية «ميديا بارت» لم تُنشر بعد، ولم يتضح بعد ما في جعبته من وثائق تدينه.
الاعلان عن الفضائح المالية الاخيرة وارتباط بعضها بشركات الجنّات الضريبية «اوف شور» يضع علامات استفهام كبيرة حول شخصية المتهم المقبل وأي ارتباط له مع متورطين من دول اخرى في ظل ازمة اقتصادية صعبة تعيشها فرنسا والاتحاد الاوروبي. الجواب رهن ما خفي من وثائق «أوف شور ليكس».
الفضائح المالية المتلاحقة وضعت الحكومة في مرمى المعارضة التي طالبت بتعديل حكومي وزادت من ضرب شعبية الرئيس الاشتراكي هولاند. جاء رد الحكومة على شكل مخرج «قانوني» تمثل بدعوة وزرائها إلى الاعلان عن اصولهم المالية قبل 15 نيسان، مع نية تقديم مشروع قانون «لجعل الحياة السياسية اكثر اخلاقية» في 24 الشهر نفسه.
خطوة الحكومة اعتبرها رئيس منظمة الشفافية الدولية لمكافحة الفساد في فرنسا، دانيل لوبيغ، متأخرة، اذ إن فرنسا مع سلوفينيا تُعتبران البلدين الوحيدين من بين دول الاتحاد الأوروبي اللذين يستثنيان القاعدة المفروضة على الوزراء والبرلمانيين التي تفرض عليهم الإعلان العام عن اصولهم المالية. وشدد على أن على فرنسا «بلد حقوق الإنسان» أن تقوم بتنفيذ هذه الشفافية وتوسيع هذه القاعدة لتشمل جميع الذين يمارسون الوظائف العامة من مسؤولين محليين، وقضاة، ورؤساء بلديات.
يصلح قول رئيس موقع «ميديا بارت»، إيدوي بلينال، لتلخيض صورة فرنسا الحالية: «الأمر يمثل ببساطة ضربة قاسية للجمهورية، وهذا دليل على أنّ فرنسا ديموقراطية هشة. إنّ الديموقراطية الحقيقية ليست فقط تلك التي نتمكن فيها من قول الأشياء وإنما تلك التي حالما يتم الكشف فيها عن شيء ما، تتأهب السلطات لضمان عمل القضاء وفرض
العقوبات».
(الأخبار، أ ف ب، رويترز)