«الجزيرة الشيوعية». تعبير محبّب على قلوب الجميع، من اليمين واليسار، لدى الحديث عن كوبا، منذ انتصار الثورة هناك نهاية خمسينيات القرن الماضي. اليوم يبرز تعبير آخر: «الجزيرة الروسيّة»، ولكن للحديث عن بلد آخر مختلف تماماً: قبرص. فالجزء اليوناني من الجزيرة المتوسطية المقسومة منذ عام 1974 يعاني من تدهور أوضاع مصارفه وماليته العامّة، واعتمد خلال السنوات الماضية على إمدادات غير اعتياديّة، من روسيا تحديداً، ومن الخبرات المصرفية اللبنانية أيضاً، للصمود في وجه أزمة الديون السياديّة التي تلاحق القارّة العجوز، وتحديداً بلدان اليورو منها، منذ أربع سنوات تقريباً. النظام المصرفي القبرصي مكشوف على الديون السيادية اليونانية. وفي ظلّ الأزمة التي تعاني منها الجمهورية الهيلينية، النظام المصرفي القبرصي يعيش أزمة بدوره، وهو يحتاج اليوم إلى رزمة إنقاذ بقيمة 10 مليارات يورو، أي ما يوازي 60 في المئة من حجم الاقتصاد القبرصي بمجمله.
تمّ التوصّل إلى رزمة بين قبرص ومنطقة اليورو وصندوق النقد الدولي بعد محادثات طويلة ترافقت مع الانتخابات الرئاسية التي نُظّمت أخيراً، وأنهتها مجموعة من الدول الدائنة، تقودها ألمانيا صاحبة الاقتصاد الأكبر في منطقة اليورو. ولكنّ لتلك المحادثات أبعاداً سياسيّة أيضاً. فالروس مشاركون في تلك المحادثات، ولهم مصلحة عليا في توجيهها باتجاه معيّن، إذ إنّ رزمة الإنقاذ رُبطت مباشرة بإجراءات لتأمين حوالى 5.8 مليارات يورو عبر اقتطاعات من الودائع في الجهاز المصرفي. وفقاً للصيغة التي كانت مقترحة حتّى يوم أمس، كان مقرراً فرض اقتطاع بنسبة 6.75 في المئة على الودائع دون 100 ألف يورو، وبنسبة 9.9 في المئة على التي تفوق ذلك الحد.
ولكن ليس سكان الجزيرة وحدهم الممتعضين. فالودائع الروسية في قبرص تبلغ حوالى 15 مليار يورو وفقاً لتقديرات نشرتها وكالة «Moody›s» في الخريف الماضي. ويُعتقد أن ودائع المصارف الروسية قد تصل إلى 9 مليارات يورو أيضاً.
واستناداً إلى تقديرات نقلتها صحيفة «Financial Times» عن مصرفيّين قبارصة، فإنّ الإجراء المقترح قد يؤدّي إلى خسارة الروس ملياري يورو من ودائعهم.
ووجود الروس في قبرص لا يقتصر على المصارف، بل عبر جالية تُقدّر بثلاثين ألفاً. وقد حوّل وجودهم مدينة ليماسول مثلاً إلى مدينة روسية مصغّرة تُسمّى تهكّماً «ليماسولغراد»!
انطلاقاً من هذا الوضع، وصف الكرملين ضريبة الاقتطاع بأنّها «غير عادلة وخطيرة»، فيما ذهب رئيس الوزراء الروسي ديميتري ميدفيديف إلى القول إنّ هذا الإجراء هو بمثابة «مصادرة أموال أجنبية».
وحتّى الاتحاد الدولي للمصرفيّين العرب، حذّر بلسان رئيسه جوزف طربيه، الذي يرأس أيضاً جمعية المصارف في لبنان، من «التدبير غير المسبوق القاضي بفرض رسم على كل الودائع المصرفية في مقابل منح قبرص خطّة إنقاذ وهمية لقطاعها المصرفي المأزوم».
ومن المتوقع أن يصل وزير المال القبرصي، مخاليس ساريس، إلى موسكو غداً للتباحث مع الجانب الروسي حول مخرج محتمل من هذا النفق الغريب.
هذا المشهد دفع الحكومة القبرصيّة إلى تأجيل التصويت على الرزمة المقترحة إلى مساء اليوم. ووفقاً للتقارير التي تمّ تداولها أمس، يُمكن تليين معدلات الاقتطاع من الفوائد لتُصبح على الشكل الآتي: 3 في المئة على الودائع دون 100 ألف يورو، 10 في المئة على الودائع بين هذا المستوى و500 ألف يورو، وصولاً إلى 15 في المئة على الودائع التي تفوق الحد الأخير.
ولكن إلى جانب غضب الروس وصغار المودعين، تخشى السلطات النقدية نفسها من أن يؤدّي الإجراء بصيغته الخام إلى ضرب أسس القطاع المصرفي وجاذبيّته عبر ضرب ثقة المودعين والمستثمرين. فالودائع في المصارف القبرصية تبلغ 67 مليار يورو، أي ما يوازي 400 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. وبانتظار التصويت، واحتواءً لتداعياته، قرّر البنك المركزي القبرصي إبقاء أبواب المصارف مقفلة حتّى الخميس المقبل لتجنّب موجة طلب على الودائع، كما حصل بعد إعلان خطّة الاقتطاع.
وفيما يظهر المشهد في قبرص اليوم كأنّه «كباش» بين الاتحاد الأوروبي وبين روسيا تحديداً، يُمكن القول إنّ الاتحاد الأوروبي تلكّأ كثيراً عن مساعدة الجزيرة التي لا يُمثّل اقتصادها سوى 0.2 في المئة من اقتصاد منطقة اليورو (17 اقتصاداً). أما الولايات المتحدة، فدعت الاتحاد الاوروبي ونيقوسيا الى إيجاد حل «مسؤول وعادل» لإنقاذ اقتصاد قبرص.