قد يكون جالساً بعباءته الفضفاضة يدخّن الأركيلة في أحد المقاهي العربية في نيويورك، أو مصليّاً مثابراً في أحد مساجد الضواحي الفقيرة، أو صاحب محلّ لتحويل الأموال في الحيّ العربي، أو زائراً دائماً لمقاهي الانترنت في الحيّ الباكستاني أو سائق تاكسي يجول في الأحياء التي يكثر فيها العرب والآسيويون المسلمون... مهمته رصد إشارات وعيّنات بشرية في المجتمعات الإسلامية في الولاية، ورفعها في تقارير الى دائرة شرطة نيويورك. والشرطة تقوم بفلترة تلك المعلومات وتحدّد على أساسها «هدفاً» بشرياً من أحد الأحياء المرصودة. بعدها ترسل له «أخاً مسلماً» كي يستدرجه. يتعرّف الأخ ــ المخبر إلى «الهدف»، يبني روابط ثقة معه، ثم يعرض عليه تنفيذ عملية تفجير ضخمة في نيويورك، على أن يرافقه في كل مراحل تحضيرها ويؤمّن له الأدوات اللازمة وكافة التسهيلات، بما فيها تأمين العبوات واختيار المكان... وعندما يحين موعد التفجير، يضغط «الهدف» على الزرّ وبدل أن يدوّي الانفجار تنقضّ عليه سيارات الشرطة ويكبّله العناصر المدججون بالسلاح ويقتادونه الى السجن مباشرة. وبعد دقائق يخرج المتحدث باسم شرطة نيويورك الى الاعلام ليعلن: «لقد أحبطنا للتو عملية إرهابية ضخمة كانت تستهدف مواطنين أميركيين أبرياء في مدينة نيويورك».
وخلال المحاكمة يقدّم الادعاء كافة الأدلة «الإرهابية» الموثقة التي تثبت تورّط «الهدف». وأي محاولة من قبل الدفاع للقول إن موكّله أوقع في فخّ واستُدرج الى العملية تُرفض وتسقط فوراً. حتى لو لم يكن للهدف أي علاقة بمجموعات «إرهابية»، قبل أن يتعرّف إليه الأخ ــ المخبر، وحتى لو لم يكن يمتلك أصلاً أي وسيلة لتنفيذ عملية التفجير، يُحاكم المتورط كـ«إرهابي» هدد الامن القومي الاميركي، وتآمر على حياة المواطنين الأبرياء. فيحكم بالسجن المؤبد في أغلب الاحيان.
تلك هي، باختصار، الاستراتيجية الامنية التي استحدثها «مكتب التحقيقات الفدرالية» وشرطة نيويورك منذ أحداث 11 أيلول 2001، والتي مكّنته من القبض على عشرات «الأهداف» حتى الآن. استراتيجية حوّلت دائرة شرطة نيويورك الى «إحدى أكثر وكالات الاستخبارات عدائية في الولايات المتحدة». هكذا استدرج مكتب التحقيقات الفدرالية عام 2006 الأردني محمد شنيوير والتركي سيردار تتار، وثلاثة إخوة ألبان توهّموا أنهم يخططون لقتل جنود أميركيين في نيوجيرسي، وأوقف عام 2010 الصومالي ــ الأميركي محمد عثمان محمود، والباكستاني ــ الأميركي فاروق أحمد في عمليتين منفصلتين، والبنغلاديشيان رضوان فردوس وقاضي نفيس عام 2012... كل هؤلاء وغيرهم، استدرجوا من قبل عملاء استخباراتيين وخالوا أنهم في صدد تنفيذ عمليات تفجيرية كبيرة في واشنطن وأوريغان ونيويورك.
تفاصيل انتقال شرطة نيويورك الى العمل الاستخباراتي لم يعلن عنها من قبل الجهات الرسمية، وترفض الشرطة والـ «إف بي آي» الاعتراف ببعض جوانب خططها الاستدراجية في المناطق الاسلامية في نيويورك، وخصوصاً بالوحدة التي تسمى «الوحدة الديموغرافية». لكن بعض المعلومات حول تلك الاستراتيجية كشفت عام 2011 في تحقيق لوكالة «أسوشييتد برس»، وأخرى نشرت في كتاب صدر أخيراً بعنوان: «مصنع الإرهاب: داخل الحرب المصنّعة للـ إف بي آي على الإرهاب» (للصحافي الاستقصائي تريفور آرنسون). وتخلص المعلومات المنشورة حتى الآن الى أن شرطة نيويورك بالتعاون مع الـ «إف بي آي» تخترع مؤامرات كاذبة لتدعي إحباطها، وتعلن بعدها تحقيق انتصارات في الحرب على الارهاب.
تفاصيل تلك الخطة فاجأت بعض الاميركيين، إذ تشير الى تحوّل الولايات المتحدة الى «نظام أمني استخباراتي» بامتياز يوقع بـ «مشاريع إرهابيين» من خلال نصب الفخاخ والتجنيد وأحياناً إجبار البعض على الانخراط في عمليات التجسس.
15 ألف مُخبر للـ«إف بي آي» جُنّدوا بعد أحداث 11 أيلول لرصد الأهداف والإيقاع بهم، تكشف المعلومات وتشير الى أن هذا العدد من المخبرين غير مسبوق في تاريخ المكتب الفدرالي. وبعض هؤلاء يتقاضون مبالغ ضخمة تتراوح بين 100 ألف و 400 ألف دولار بغية «اصطياد أشخاص مهتمين بارتكاب عمل إرهابي». تحقيق «أ ب» وكتاب آرنسون أشارا الى أن معظم المخبرين المتعاونين في هذه القضية هم إما مجرمون سابقون، أو مروّجو مخدرات أو مهاجرون غير شرعيين «تهدد الشرطة بطردهم من البلاد أو بمنع عائلاتهم من الدخول الى الولايات المتحدة في حال رفضوا التعاون». بعض الصحافيين الاميركيين سألوا عن «شرعية عمليات الإيقاع بأشخاص لم تكن لديهم أصلاً النية ولا الاستعدادات لتنفيذ عمل إرهابي».
الـ «إف بي آي» يسمّي «أهدافه» تلك «الذئاب المنفردة»، وضباط المكتب مقتنعون أن الهجوم الارهابي التالي على الولايات المتحدة سينفذه أحد هؤلاء «الذئاب». لذا، وفي عملية استباقية وقائية على طريقة حروب جورج والكر بوش والمحافظين الجدد، «نصطاده قبل أن يرتكب جريمته». الـ «إف بي آي» يصرّ على أن «مشاريع الارهابيين كانوا ليحصلوا على حاجاتهم من أي مكان وينفذوا عملياتهم». لكن آرنسون ومعظم المتابعين للمسألة من محامين يقولون إنه لا توجد أي داتا تثبت ادعاء الـ «إف بي آي» ذاك. «أغلب الموقوفين ــ الذئاب لم يكن بمقدورهم تنفيذ العمليات المزعومة تلك لو لم يتمّ تأمين مستلزماتها من قبل المخبر وغطائها الامني من قبل الشرطة»، يخلص المتابعون.
آرنسون، يقول في كتابه الذي نشرت مقاطع منه في مجلة «موذر جونز»، إن «ذلك التكتيك الذي نشأ في عهد جورج والكر بوش لا يزال معتمداً، وهو الى تزايد في عهد باراك أوباما». وأشار الى أن وزارة العدل حاكمت 75 موقوفاً في عمليات إرهابية مزيّفة. ويضيف أن التوقيفات من خلال تلك العمليات بلغت معدل توقيف شخص كل 60 يوماً، وينقل عن ضباط في النيابة العامة قولهم «إما أن هناك عدداً كبيراً من الإرهابيين الفاشلين في الولايات المتحدة أو أن إف بي آي نجحت في خلق العدو الذي تلاحقه».



مخبرو المكائد

في مقابلة أجراها «راديو ليبيرتي» مع كاتب «مصنع الإرهاب» الذي نبش الحقائق في وثائق المحاكم وسجلات محاكمات «الإرهابيين»، قال تريفور آرنسون إن «بعض الإرهابيين الذين قبض عليهم الإف بي آي كانوا خطيرين فعلاً مثل فيصل شهزاد الذي كان يخطط لتفجير تايم سكوير ونجيب الله زازي الذي كان ينوي استهداف السابواي في نيويورك، لكن أكثر من 150 محكوماً ممن أوقفوا في مكائد استخباراتية هم ممن لم يكن لديهم الوسائل ولا حتى فكرة تنفيذ عملية إرهابية في بعض الاحيان».
آرنسون، يلفت الى خطورة اعتماد شرطة نيويورك والـ «إف بي آي» على مجرمين سابقين غير نزيهين كمخبرين أساسيين في العمليات المزيّفة، «لأن هؤلاء سيسعون جاهدين الى تحديد أهداف كثيرة بغية جني الكثير من الاموال مقابل كل منها». يقصد عناصر من «مكتب التحقيقات الفدرالية» مهاجراً مسلماً آتياً من لبنان أو سوريا مثلاً، يشرح الكاتب، ويقولون له «إذا لم تتعاون معنا فسنرحّلك أو لن ندع عائلتك تدخل الاراضي الاميركية». آرنسون يقول إن مبدأ «المكيدة» و«الإيقاع في الفخّ» هي في صلب تلك العمليات، ويشير الى أن الحكومة الاميركية تعمد في الإعلان عن إحباط تلك العمليات الى تضخيم خطورتها والتهويل من مرتكبيها في حين يتجاهلون ذكر أن الموقوف لم يكن يمتلك أصلاً الادوات الكافية لارتكاب فعلته المزعومة.