«سكينة كانسيز، فيدان دوغان، ليلى سويلميز اللواتي تمّ اغتيالهن منذ ١١ يوماً في «مركز كردستان للإعلام» في باريس هنّ (مجرد) ناشطات كرديات. لذا، لن نهتمّ بقضيتهنّ كثيراً ولا تتوقعوا إعلان الحداد على شاشاتنا أو تحرّك الأقلام استنكاراً لـ«عمل إرهابي وحشي بحق ناشطات مدنيّات عزّل»، أو حتى السؤال عن الاختراق الأمني الكبير للعاصمة باريس. لن نهمل بروباغندا الحرب على مالي من أجل الوقوف على القضية الكردية وواقع الأكراد في أوروبا وفرنسا تحديداً وعلى مشاعر من عرفوا الضحايا (كما حدث على مدى الأسابيع التي تلت إطلاق النار على مدرسة يهودية العام الماضي)».
على هذا الأساس، تصرّف الإعلام الفرنسي، بجزئه الأكبر، منذ يوم اغتيال المناضلات الكرديات الثلاث حتى اليوم، فاكتفى الصحافيون ببعض التحليلات السياسية وتفنيد بعض الترجيحات. ولولا الخبر المسرّب المستجدّ، أول من أمس، لكانت عملية الاغتيال دُفنت إعلامياً مع تشييع الجثامين الثلاثة.
آخر تطورات القضية جاءت عبر وكالة «فرانس برس» من «مصدر مطّلع في الشرطة الفرنسية» الذي أعلن توقيف رجلين مشتبهاً فيهما واحتجازهما قيد التحقيق. الرجلان، حسب المصدر، هما كرديان في الـ ٣٩ والـ ٣٠ من العمر، مقرّبان من الناشطات، وأحدهما هو سائق لإحدى الضحايا. لكن المصدر لم يحدد ما هو دور الرجلين في القضية وعلى أي أساس أوقفا، لكنه أضاف إن «المعطيات جدّية».
وكانت محطة «تي إف ١» الفرنسية قد حصلت على معلومات من مصادر قضائية تفيد بأن الضحايا قُتلن «برصاص من نوعين مختلفين، لكن من العيار نفسه (٧،٦٥ ملم) أطلقت من سلاح واحد». «القاتل نفّذ جريمته بدم بارد نظراً إلى مكان الإصابات: ٣ رصاصات في الرأس عند اثنتين من الضحايا وأربع في رأس الثالثة»، يضيف المصدر القضائي.
وكان الموقع الإلكتروني المتخصص بالأخبار الكردية «أكتو كورد» قد نشر منذ أيام أولى الشهادات لصديقي الضحايا اللذين حضرا الى مكان وقوع الجريمة ليل الأربعاء ــ الخميس الماضي، وكانا أول من اكتشف الجريمة. الشاهدان رويا بالتفصيل كيف كان من المقرر أن تسافر كانسيز وسويلميز بالقطار عند الواحدة والنصف ظهر يوم الأربعاء، وقد توقف الاتصال معهما ابتداءً من الثانية عشرة ظهراً من اليوم نفسه. الصديقان كانا قد توجها الى المركز، الواقع في شارع لافاييت في الدائرة العاشرة في باريس، بعد أكثر من ١٠ ساعات على انقطاع الاتصال بالضحايا. ولم يستطيعا الدخول الى المركز، إذ كان الباب مقفلاً بالمفتاح، علماً بأن الباب الرئيسي الخارجي المؤدي الى الشارع يحتاج الى شيفرة معينة ليفتح. حاول الشاهدان طلب المساعدة من الجيران، لكن أحداً لم يستجب، وعندما تمكنا من الدخول بمساعدة صديق ثالث، شاهدا الجثث المدماة أرضاً.
يروي هؤلاء، أن موقع الجريمة ووضعية الجثث تبيّن أن اثنتين من الضحايا كانتا توضبان حقائب السفر، إذ إن بعض الثياب كانت لا تزال ملقاة على الأرض والحقائب موجودة بين الجثث.
وبعد سماع الشهادات، طرح الموقع أسئلة أساسية ومنها حول توقيت تنفيذ الجريمة. إذ إن نتائج التشريح تقول إن الضحايا قتلن بين الساعة السادسة والسابعة مساءً، بينما الأصدقاء يقولون إنه كان من المفترض أن تسافر اثنتان منهما عند الساعة الواحدة والنصف ظهراً، لذا يرجّح هؤلاء أن تكون الجريمة قد تمّت بين الحادية عشرة والنصف والواحدة والنصف قبل مغادرتهن المركز. أما السؤال الثاني فيتمحور حول إمكان الدخول الى المركز المحصّن ببابين وبشيفرة سرية. مقال ماكسيم أزادي، على الموقع الكردي، لا يغفل الإشارة الى أن «المركز كان مراقباً من قبل الشرطة الفرنسية ومن دون شك من الاستخبارات التركية»، فاتحاً الاحتمالات حول الجهة المتورطة في الجريمة.

المتورطون؟

الاحتمال الأول الوارد في الإعلام الفرنسي والتركي، الذي تفضّله السلطات التركية وروّجت له منذ اليوم الأول للاغتيال، يقول إن الجريمة هي عبارة عن «تصفية حسابات داخل حزب العمل الكردستاني». ويعتمد هذا الاحتمال على واقع صعوبة الدخول الى المركز عبر بابين وشيفرة، وعلى معلومة تقول إن الباب كان مقفلاً بالمفتاح عند اكتشاف الجريمة.
بعض الصحف التركية، بدأت تروّج لفكرة وجود شرخ داخل حزب «العمال» بين الموالين لعبد الله أوجلان وبين أحد القادة الأمنيين في الحزب، وهو سوري واسمه فهمان حسين وملقب بباهوز إردال. إردال كان، حسب صحيفة «زمان» التركية، من أبرز المعارضين أخيراً لإطلاق محادثات بين السلطات التركية وقائد «العمل الكردستاني» المسجون عبد الله أوجلان. لكن المدوّن غييوم بيرييه، في صحيفة «لو موند» الفرنسية، لفت الى «حرب نفسية طالما لعبتها السلطات التركية من خلال الترويج لوجود انقسامات داخل حزب العمال بغية إضعافه». ويخلص إلى أن «ترجيح نظرية تصفية الحسابات تبدو ضعيفة نظراً الى هوية وشخصيات الناشطات الضحايا».
الاحتمال الثاني، يرجّح تورّط ثلاثة أطراف، وهي الاستخبارت التركية أو ما يسمّى «الدولة العميقة» أو «الذئاب الرمادية». و«الدولة العميقة» هي مجموعة تحالفات استخبارية عسكرية مافيوية تركية نافذة داخل تركيا وخارجها، تتبنى خطاً قومياً متطرفاً. و«الذئاب الرمادية» هي حركة يمينية تركية متطرفة أيضاً وفي سجلها اعتداءات على الأقليات، وخصوصاً على الأكراد. ويلفت بيرييه إلى أن كلتا المجموعتين لا تزالان موجودتين وفاعلتين في أوروبا، «لكن لا ندري مدى قدرتهما على تنفيذ عمليات ميدانية».
بيرييه، كما آخرون من المحللين الفرنسيين، لم يستبعدوا احتمالاً ثالثاً يورّط دولاً. البعض سمّوا سوريا «نظراً الى مصلحتها في عرقلة المحادثات التركية ـــ الكردية وفي عدم تهدئة الأوضاع بينهما»، والبعض الآخر سمّى إيران «لمساندة حليفتها سوريا في هدفها السياسي ذاك». كما لم يستبعد آخرون تورّط إسرائيل الساعية الى تطويع تركيا بعد جمود العلاقات بينهما.
يبقى في النهاية، تشكيك تركي بنيّة رجب طيب أردوغان أصلاً في حلّ القضية الكردية سلمياً، إذ يقول بعض الناشطين الأكراد إن لأردوغان حسابات انتخابية فقط من وراء إجراء محادثات مع أوجلان الآن.