الحكايات التي رويت عن «الشجاعة» التي تحلّت بها واشنطن لنشرها تقرير الكونغرس عن وسائل تعذيب الـ«سي آي إيه» للمشتبه فيهم بعد أحداث 11 أيلول، لم تنغّصها «ردود الفعل العنيفة والغاضبة في العالم العربي»، التي حذر منها الإعلام والإدارة الأميركيّان، والتي لم تحدث أصلاً، لأسباب كثيرة ليس أولها انشغال العالم العربي بـ«ثوراته» ولا آخرها أن هذا التقرير لم يقدم جديداً بالنسبة إليه.
بعض الوقاحة التي اتسمت بها تصريحات عدد من المسؤولين الأميركيين تكفّلت بتحويل التغنّي بـ«الاعتراف بالخطأ فضيلة»، إلى مسألة مثيرة للسخرية في سبيل حقيقة واحدة: «نحن لم نخطئ، وإن كان لا بدّ من ذلك فسنعيد الكرة، من أجل أمننا القومي!».
«الأمن القومي»، عبارة حمّالة أوجه، ولكن باسمها يُسمح للـ«سي آي إيه» أن تحرم المعتقل النوم، توهمه بالغرق، تعلّقه لساعات أو تحبسه في صناديق تشبه النعوش، وحتى أن تخضعه لـ«تزويد بالسوائل والطعام من طريق الشرج». كل هذه الوسائل وغيرها، يمكن اللجوء إليها مجدداً بحسب نائب الرئيس الأميركي السابق (إبان ولاية جورج بوش الابن)، ديك تشيني، الذي دافع بقوّة عن برنامج الاستجواب وأثنى على عناصر الوكالة الـ«أبطال» الذين أداروه.
وكل هذه البشاعة التي اعتبر الكونغرس في تقريره أنها لم توصل إلى معلومات مفيدة، لم تمنع مدير وكالة الاستخبارات، جون برينان، من التأكيد أنها «حالت دون وقوع اعتداءات أخرى بعد 11 أيلول 2001»، والقول إن «التحقيقات الداخلية التي أجرتها الوكالة كشفت أن الاستجوابات المتشددة مع مشتبه فيهم بالإرهاب سمحت بالحصول على معلومات أتاحت منع وقوع اعتداءات، واعتقال إرهابيين وإنقاذ أرواح بشرية». وهو لم يكتفِ بذلك، بل أكد أنه سيلجأ إلى صنّاع القرار في المستقبل، «عندما يكون هناك ضرورة لضمان أمان هذا البلد، في حال مواجهتنا نوعاً مماثلاً من الأزمات»، تاركاً الباب مفتوحاً، وبشكل واضح، أمام برنامج احتجاز، يتضمن استخدام أساليب الاستجواب القسرية.
ما الذي سيغيّره هذا التقرير؟ الإجابة عن هذا السؤال تولاها الإعلام الأميركي الذي وجد ثُغُراً كثيرة في الدراسة التي قام بها الكونغرس، انطلاقاً من حقيقة واضحة، هي أنها لم تخرج بتوصيات، وصولاً إلى أخرى، هي أنها لم توجّه أي اتهام إلى أي من المسؤولين في الإدارة الأميركية.
منذ تأسيس الـ«سي آي إيه» جرى الاعتماد عليها بعمليات قتل وتجسس ورشوة

فلدى إعلان البدء بهذه الدراسة في عام 2009، رُوِّج لفكرة أن التحقيق سيتمحور حول طريقة إدارة الـ«سي آي إيه» لبرنامج الاستجواب، والأسس التي بناءً عليها يُعتقَل بعض الأشخاص، إضافة إلى الدعم القانوني للبرنامج نفسه وتقويم المعلومات التي حُصِل عليها من خلال استخدام أساليب الاستجواب المعززة.
واستناداً إلى هذه الأساسيات، أشارت صحيفة «ذي هافنغتون بوست»، إلى أن الدراسة التي قام بها الكونغرس لم تقدم أي توصيات من أجل تحسين المشاكل النظامية التي أضاءت عليها. كذلك فإنها لم تقترح أي إجراء قانوني ضد أي من الجناة، وأيضاً هي فشلت في تحميل المسؤولية بشكل واضح لمسؤولين كبار في إدارة بوش، قالوا علناً إنهم كانوا على اطلاع تام على ما تقوم به الوكالة، مؤكدين أنها لم تشوّه المعلومات عن برنامج التعذيب.
وبناءً عليه، اعتبرت الصحيفة أن «الفجوات التي حملتها الدراسة كانت لافتة للغاية، خصوصاً أن من الشروط الأساسية وراء القيام بها، هي الانتهاء بتغيير أسلوب الاستجواب المتبع. ولكن بدلاً من ذلك فقد شدّد تقرير الكونغرس، بشكل أساسي، على النقطة الأخيرة فقط».
هل سيكون هناك أي نوع من استجابة قانونية، يمكن أن تمنع حدوث هذا الأمر مرة أخرى؟ القانون الأميركي لا يتضمن أي قيود بشأن هذا الموضوع، و«بالتالي يمكن أيَّ رئيس أميركي مستقبلي الالتفاف حول قرار الرئيس، باراك أوباما، الذي منع التعذيب بقرار تنفيذي لدى توليه الرئاسة»، وفق صحيفة «ذي واشنطن بوست».
وما يسعى إليه عدد من المشرّعين يدخل في هذا الإطار. فقد أشارت الصحيفة إلى أن بعض الديموقراطيين يناقشون ما إذا كان بإمكانهم المضي قدماً في نوع من الاقتراحات التشريعية يجري ترسيخه في النظام الأساسي، وتكون فيه تقنيات التعذيب (المذكورة سابقاً) غير قانونية. ويشترط هؤلاء في اقتراحهم أن يكون للكونغرس، في المستقبل، رأي في ما إذا كانت هذه التقنيات ستُستأنَف، بدلاً من أن يكون الأمر منوطاً بالرئيس وحده.
يمكن أن تشكل دراسة الكونغرس صفعة قوية لسمعة الـ«سي آي إيه»، قد تصل إلى حد التساؤل إلى أي مدى يمكن الوثوق بالوكالة. ورغم ما حاول مسؤولو الإدارة الأميركية الترويج له عن أنها «مهمة من أجل مستقبل الديموقراطية» وأنها دليل على أن «الولايات المتحدة تواجه مشاكلها ولا تختبئ وراء إصبعها»، إلا أن ذلك لم يمنع عدداً من الصحف من الاستخلاص أنها لن تغيّر شيئاً، أي أن ما بعدها سيكون كما قبلها.
ففي تقرير آخر في صحيفة «ذي واشنطن بوست»، اعتبر الكاتبان، كريغ ميلر وديانا بريست، أنه «كما في الحالات السابقة التي سادها الغضب السياسي والعام، من المتوقع أن تخرج وكالة الاستخبارات من تحت أنقاض التحقيقات مع دورها وسلطتها السليمتين في واشنطن».
وبحسب ميلر وبريست، فـ«كل رئيس وكل كونغرس اعتمد على السي آي إيه، منذ تأسيسها في عام 1947، للقيام بما لا يمكن أن تقوم به أي وكالة أخرى: عمليات سرية في الخارج تشمل القتل والتجسس والسرقة والرشوة والابتزاز وغيرها مما يهدف إلى إضعاف الدولة الخصم».
إلا أن «الاعتماد على الوكالة بات أكبر من أي وقت مضى بعد هجمات 11 أيلول، حين لجأ الرئيس جورج بوش إليها من أجل ضرب القاعدة وحلفائها، وفي عهد الرئيس باراك أوباما جرى الحفاظ على الدور المركزي للسي آي إيه في محاربة الإرهاب».
«ما حصل قد حصل»، يقول مدير معهد الأمن القومي ومحاربة الإرهاب في جامعة سيراكيوز، وليام بانكس، لـ«ذي واشنطن بوست»، ويؤكد أن «لا شيء سيتغيّر، فوكالة الاستخبارات هي هناك، في كل مكان موجودة فيه الولايات المتحدة»، تقوم بضربات بالطائرات من دون طيار وتجمع المعلومات الاستخبارية... وغيرها من المهمات.