برشتينا | إنه لأمر لافت أن تتجول في العاصمة الكوسوفية، برشتينا، أثناء شهر رمضان في وقت الغداء، لتجد المقاهي والمطاعم مكتظة بالزبائن، علماً أن المسلمين في كوسوفو يمثلّون نحو ٩٣٪ من إجمالي عدد سكان الإقليم. وبرغم ذلك، عيد الفطر هو أحد أبرز الاعياد التي تجمع العائلات للاحتفال وتبادل التهاني.
في كوسوفو، قد تجد بعض الصائمين وبعض المتدينين الذين يواظبون على الذهاب إلى المساجد، وخصوصاً يوم الجمعة، ولكن تبقى نسبة الذين لا يقومون بأدنى «الواجبات الدينية» مرتفعة جداً. فعلى سبيل المثال، أثناء التجول في أنحاء العاصمة الصغيرة، يمكن رؤية 3 سيدات محجبات في اليوم الواحد.
في مقابلة مع الكاتب والصحافي الكوسوفي، ميغين كيلميندي، يوضح أن الإسلام ما قبل الحرب في كوسوفو هو «إسلام العادات والتقاليد»، قائلاً: «كان جدي يقول لي إن الإسلام هو الحب، وهو أن تساعد المحتاج، وهو تقاليد شهر رمضان، وهو لذكر أجدادنا المسلمين». ويضيف كيلميندي أن القيم الدينية عموماً والإسلامية خصوصاً، تحفظ المجتمع، مشيراً إلى أن الإسلام في يوغوسلافيا السابقة ساعد الناس على ألا يتحولوا إلى «حيوانات»، بحسب تعبيره. لا يمارس كليميندي فرائض الإسلام، كالصوم في رمضان أو الصلوات الخمس اليومية، وفيما يقول إنه يفتخر بانتمائه للديانة الإسلامية، يشدّد على أنه «علماني الفكر والمسلك»، مضيفاً أنه لا يؤمن بالنظرية الخَلقية للوجود، بل بنظرية التطور. ومن هنا، يمكن إدراك أن إيمان الكوسوفيين يمكنه أن يكون جزئياً، حيث أن مبدأ أن الله خلق السموات والأرض هو مبدأ جوهري لدى الديانات التوحيدية على الأقل. فكيف يمكن أن تكون مسلماً ولكن غير مؤمن بنظرية الخلق؟
في مدينة برزرن الكوسوفية الواقعة جنوب غرب العاصمة على مقربة من الحدود الألبانية، تعاين تاريخاً إسلامياً عريقاً من حيث الهندسة العمرانية، والمساجد القديمة. للمدينة طابع عثماني واضح، وفي الوقت نفسه، تحفل أحياء المدينة القديمة بالعديد من المقاهي الليلية التي تقدم المشروبات الروحية، بجانب المساجد الإسلامية. قد يذهل المشهد السائح في المدينة، ولكن ما قد يفاجئه حقاً، هو سماع أذان المغرب من المسجد في وسط المدينة القديمة، تزامناً مع صوت الموسيقى الصاخبة المنبعثة من مقهى يفصله عن المسجد حائط صغير، حيث يرقص رواده، ويشربون الأنخاب. قد يصعب رؤية هذا المشهد في أي دولة إسلامية أخرى، وهو دليل واضح على النموذج الاسلامي الفريد من نوعه في كوسوفو.
ساهمت هذه المنظمات في بناء مساجد جديدة تختلف بتصميمها الهندسي عن تلك التقليدية


لعلّ تركيا العلمانية هي الأقرب لـ «نموذج كوسوفو»، لناحية علاقة الدين بالمجتمع والدولة. وقد أشار عدد من رجال الدين المسيحيين والمسلمين، بالإضافة إلى شخصيات سياسية، إلى أن الحكومة والمؤسسة الدينية في كوسوفو، «تسعيان إلى إقامة أفضل العلاقات مع أنقرة»، إذ إنها كانت المثال الذي كان يتطلّع كثيرون إلى الاقتداء به. ويقول الأب في الكنيسة الكاثوليكية، لوش غيرغي، إن تركيا ومصر كانتا نموذجا للاحتذاء بهما بالنسبة إلى المسلمين في كوسوفو، إلا أن المشاكل السياسية التي تعصف بكلتا الدولتين انتزعت منهما الريادة في هذا المجال.
قبل تفكّك دولة يوغوسلافيا، وتحديداً أثناء حكم الزعيم تيتو، كان للحكم الشيوعي دور في تخفيف من تأثير الدين على المجتمع. لقد ساهم الحكم الشيوعي في إبقاء الناس بعيدين عن التديّن. فالدّين في تلك الحقبة لم يكن ذا أهمية كبيرة بالنسبة إلى السكان. كذلك، كان للدولة الشيوعية القوة الكافية لمنع دخول أفكار دينية جديدة تحت مسمّيات عدة، وخصوصاً عبر المنظمات غير الحكومية التي تدخل البلاد تحت شعارات مختلفة. غير أن الحكم الشيوعي لم يمنع الدين وممارسة الشعارات الدينية، لكنه ساهم فقط في تخفيض تأثيره. فعلى سبيل المثال في ساحة العاصمة الحالية لكوسوفو، برشتينا، كان هناك مسجد وكنيسة ومعبد يهودي. ولأسباب تتعلق بالتنظيم المدني جرى تدمير دور العبادة الثلاث، وجرى إنشاء مسرح مكان المسجد.
لقد كان للحرب أثر في كوسوفو على أكثر من صعيد، فإضافةً إلى النتيجة السياسية الواضحة، وهي انفصال الإقليم عن الدولة الصربية، نجمت عن الحرب آثار اجتماعية واقتصادية هائلة. على الصعيد الاجتماعي، بدأ النموذج الإسلامي في كوسوفو يتغير تدريجاً، فأصبح هناك التزام أكبر بالدين، وإقبال أكبر على المساجد. يفسّر البعض هذا الإقبال بدور الحرب في خلق مشاكل نفسية. فبعض الشبان وجدوا فراغاً روحياً كان لا بد من ملئه بقيم ومفاهيم دينية. ويرى رئيس الأئمة في كوسوفو صبري بنغورا أن الإسلام في كوسوفو، مختلف، بسبب اختلاف ممارسة المسلمين الكوسوفيين له، فمعظم هؤلاء لا يصلّون أو يصومون، ولكنهم يُبقون «التقاليد الإسلامية». غير أن تغييراً بدأ يظهر بعد حرب عام ١٩٩٩، حيث بدأ بعض الشبان الكوسوفيين بالتأثر بالفكر الوهابي الذي دخل إلى البلاد بعد الحرب، بحسب تعبير بنغورا، الذي أضاف أن «الوهابية جعلت الكثير من الشبان يعيد البحث بالعقيدة الاسلامية، ولكن بطريقة سلبية».
كذلك، لقد «غزا» كوسوفو عددٌ من المنظمات غير الحكومية تحت مسميات عديدة، وهي متهمة من قبل شخصيات سياسية ودينية بالدور السلبي الذي تؤديه «بإدخال إسلام جديد غريب عن الإسلام الذي يفهمه المجتمع هنا». وقد ساهمت هذه المنظمات ببناء العديد من المساجد الجديدة التي تختلف حتى بتصميمها الهندسي عن التصميم العمراني للمدن والقرى والمساجد القديمة. ويمكن من هنا أن نفهم أن المساعدات الإنسانية والمنظمات التي دخلت الإقليم قد تساهم في تغيير شكل الاسلام فيه على المدى البعيد.
في هذا الصدد، يشبّه وزير الصحة في كوسوفو ورئيس حزب «العدالة» الاسلامي، فريد اغاني، الإسلام بالماء، قائلاً: إن الإسلام يأخذ شكل المجتمع الذي يحلّ فيه، كما يأخذ الماء شكل الكوب الذي يوضع به، إذ يمكن لعوامل عديدة أن تبخّر الدين أو تجعل المجتمع يشربه مثلما يشرب التراب المياه. لذا، يمكن القول إن النموذج الاسلامي عرضة للتغيير بسبب العوامل الخارجية التي طرأت بعد الحرب وانفتاح كوسوفو على العالم الإسلامي وبسبب المساعدات التي دخلت تحت اسم «مساعدات انسانية» من حكومات عربية إسلامية.
لذلك، قد يكون «النموذج الإسلامي» في كوسوفو، معرّضا للتغيير، تبعاً لعوامل سياسية واقتصادية، ما قد لا يخدم طموح الجمهورية الحديثة إلى دخول الاتحاد الأوروبي.