الرباط | كأن روح الثائر الأفريقي توماس سانكارا عادت، بعد 27 سنة، لتحلّق في سماء العاصمة البوركينية واغادوغو، انتقاماً من قاتلها بليز كومباوري. فعام 1987، قاد كومباوري انقلاباً دموياً على رفيقه في السلاح توماس سانكارا الذي كان رئيساً شعبياً يحمل تصورات وأفكار ثورة تحررية، بعدما قادا جنباً إلى جنب انقلاباً في عام 1983، يعرف في أدبيات التاريخ الأفريقي بـ«الثورة»، بسبب التغييرات الجذرية والعميقة والمشاريع الوطنية الناتجة منه. وهي مشاريع لم يعرفها انقلاب كومباوري المدعوم من الاستخبارات الأميركية والفرنسية ومن أطراف أفريقية.

رأى الغرب في ذلك الوقت أن الزعيم الشاب (سانكارا) المفعم بالحماسة والمتأثر بـ«تشي غيفارا»، والخطيب البارع المناهض للإمبريالية والداعي إلى الوحدة الأفريقية، يمثل مصدر تهديد لمصالحها وللقالب الذي اختارت أن تدفن فيه أفريقيا، وخصوصاً أن الزعيم الشاب الذي استبدل الاسم الاستعماري للبلاد، «فولتا العليا» بـ«بوركينا فاسو»، كان يطمح إلى تأميم الموارد الاقتصادية لبلاده، رافضاً تعليمات المؤسسات المالية الدولية، بالإضافة إلى إرساء برنامج زراعي يرمي إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي.
هذه المرة قضي الأمر. أُجبر رئيس بوركينا فاسو، كومباوري، أحد أقوى وأشرس القادة الأفارقة، على مغادرة السلطة إلى المنفى في ساحل العاج، نتيجة ضغطٍ شعبي عارم فاق كل التوقعات، اضطر الجيش إلى دعمه في النهاية رغم ولائه الشديد لكومباوري الذي كان يحظى بمساندة أوروبية (خصوصاً من فرنسا)، وأميركية كبيرة.
لم يستطع كومباوري النجاة مثلما استطاع أن يفعل سنة 2011. حينها، غادر العاصمة مؤقتاً بعد احتجاجات عارمة مصحوبة بتمرّدٍ في صفوف الجيش. ومثّل إعلانه في كانون الأول من السنة الفائتة عن نية طرح تعديل دستوري يتيح له الترشح لولاية رئاسية ثالثة ابتداءً من سنة 2015، النقطة التي أفاضت الكأس وعجّلت بتسارع الأحداث.
يوم الأربعاء الفائت، خرج ما يقارب المليون محتج إلى شوارع واغادوغو، لتصل الاحتجاجات الرافضة للتعديل الدستوري إلى ذروتها يوم الخميس بهجوم المتظاهرين على مقر البرلمان والتلفزيون وعدد من المنشآت الحيوية. على الأثر، وقعت مواجهات دموية سقط خلالها العشرات من القتلى واضطر بعدها الرئيس إلى إعلان حلّ البرلمان وإلغاء التعديل الدستوري والدعوة إلى الحوار. غير أن تنازلات اللحظة الأخيرة الآتية بأمرٍ من «عرّابه»، قصر الإيليزيه في باريس، التي كانت تحاول إيجاد مخرج له عبر سفيرها في واغادوغو، لم تكن كافية.
فأمام استمرار احتشاد الآلاف في ساحة «الأمة» في العاصمة، يوم الجمعة الفائت، وإعلان مجموعة كبيرة من جنرالات الجيش انحيازها للمتظاهرين، لم يجد الرئيس القوي بديلاًً من توقيع استقالته والمغادرة برفقة أفراد عائلته إلى منطقة ياموسوكرو في ساحل العاج، ليكون في ضيافة صديقه الحميم الرئيس الحسن واتارا الذي أرسل له مروحية لإجلائه من البلاد.
هكذا، تكون بوركينا فاسو قد طوت مرحلة حكم كومباوري. غير أن الدولة التي تُعد أحد أفقر البلدان في القارة السمراء، ليست واثقة من أنها ودّعت حكم العسكر إلى الأبد، لترسم طريق «الانتقال الديموقراطي»، الذي نادى به عدد من المنتفضين، عبر صفحات المواقع الاجتماعية.
حتى اللحظة، لا تبدو صورة المستقبل واضحة، وخصوصاً بعدما تسلم الجيش إدارة البلاد لفترة انتقالية تبدو ملامحها ضبابية. وزاد الأمور غموضاً لساعات طويلة يومي الجمعة والسبت الفائتين، بعد تردّد أنباء عن صراعات حادة في أوساط الجيش عن الشخصية العسكرية التي ستدير المرحلة مع صدور بيانات متضاربة من جنرالين، أعلن كل منهما «تحمله المسؤولية»، قبل أن يتضح الأمر بصدور بيان يؤكد وقوع الاختيار على الكولونيل اسحق زيدا الأكثر قرباً من المتظاهرين بدلاً من الجنرال هونوري تراوري، قائد الأركان المقرب من الرئيس السابق، والذي كان قد أعلن، أول من أمس، أنه سيقود البلاد قبل أن تتغير الأمور في ما بدا أنه «انقلاب» وسط الجيش.
ورغم أن الكولونيل زيدا (49 سنة) أحد عناصر الحرس الرئاسي لكومباوري قد أعلن عن نيته تشكيل مجلس انتقالي قريباً، بشراكة مع المعارضة والمجتمع المدني لتجاوز الفراغ الدستوري الحاصل بعد رحيل الرئيس، إلا أن جزءاً كبيراً من المعارضة ومن الشارع البوركيني لا يثق بالجيش وبأطماع جنرالاته في السلطة، ويطالب بأن تعهد إدارة المرحلة الانتقالية إلى المدنيين، لذلك صدرت الدعوات من طرف قادة المعارضة للاستمرار في التظاهر يوم أمس، للمزيد من الضغط الشعبي إلى حين اتضاح خريطة طريق انتقالية يشارك فيها المدنيون وتفادياً لسرقة «الثورة» من طرف الجيش على الطريقة المصرية، في الوقت الذي دخلت فيه الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي على الخط للمطالبة بعودة الجنود إلى الثكن واحترام الدستور.
المشهد الجديد في بوركينا فاسو ألهم مواطني العديد من الدول الأفريقية عبر مواقع التواصل الاجتماعي الذين ضاقوا ذرعاً بعقود الاستبداد التي عاشوها تحت حكم رؤسائهم الشيوخ. كذلك، يعتبر مراقبون للشأن الأفريقي أن تنحي كومباوري ونجاح المرحلة الانتقالية من دون أي استيلاء على السلطة من طرف العسكر مرة أخرى، سيكون نموذجاً لدولٍ أفريقية عدة.