إطلاق العم سام تحالفاً دولياً للقضاء على «داعش» أثقل الساحة الإيرانية بنقاشات مفتوحة حول أهدافه ومآلاته. دوائر تقدير وأجهزة أمنية وعسكرية ومواقع سياسية، جهدت في مقاربة الهجمة الجديدة على المنطقة، كل من زاويته. إلا أنها اتفقت جميعها على سؤال واحد: هل بإمكان الأميركي أن يكون بهذا الغباء ليقدم لنا هذه الخدمة؟الجواب بالنفي طبعاً، وبالتالي لا بد أن هناك معطيات ما طفت الى السطح بعد، لا بد من البحث عنها.
خلفية السؤال تقوم على المقدمة الآتية: إذا كانت «داعش» وأخواتها تعادي أولاً الجمهورية الإسلامية وحزب الله والنظام السوري، فإن أي ضرب للتنظيم الإرهابي، بأي صيغة كانت، لا شك سيعود بالفائدة على هذه الأطراف. فما الذي حصل ليدفع الأميركي إلى خطوة من هذا النوع؟

مصادر إيرانية تعود بالزمن الى عام ونصف عام. وقتها، كثر الحديث في الغرب عن ازدياد منسوب التطرف في المعارضة السورية. تكثفت الاتصالات بين الأميركيين وحلفائهم في المنطقة، إلى أن أتى الحل المعجزة: جبهة إسلامية «لايت» تعمل على ضرب التنظيمات المتطرفة والنظام السوري على حد سواء. تجربة لم يُكتب لها النجاح. مرحلة مفصلية تلتها أخرى أخيراً، تمثلت بالهجوم الصاعق الذي أسقط الموصل. ومعها راهنت واشنطن على ابتزاز طهران والحكم العراقي تحت تهديد «داعش» التي دخلت سامراء وبلغت تخوم بغداد ولامست النجف وكربلاء. رهان سقط هو أيضاً بفعل فتوى «الجهاد الكفائي» للسيد علي السيستاني وضغط قوات «الحشد الشعبي».
من هنا، تميل هذه المصادر إلى الاعتقاد بأن قرار باراك أوباما إطلاق التحالف المناهض لداعش جاء من باب غياب البديل أكثر منه من باب القناعة المبنية على حسابات واضحة. قرار أملاه انفلات التنظيم من عقاله عندما أصبح يشكل خطراً داهماً على المصالح الأميركية في المنطقة، باندفاعه نحو أربيل والحدود السعودية. وبالتالي، بات يمكن فهم تحديد واشنطن مدة العملية بثلاث سنوات، ما يعني أنها أطلقت مساراً عسكرياً (process) وليس عملية (operation)، تسعى من خلاله إلى تثمير الجهود العسكرية سياسياً من دون أن تمتلك رؤية واضحة لكيفية القيام بهذا الأمر.
سارعت إيران إلى نوعين من الإجراءات: الأول احترازي، من نوع تحصين المنطقة الممتدة من بغداد جنوباً إلى الحدود السعودية، ومعها الأماكن المقدسة وخاصة في سامراء، مع تعزيز وجود الحرس الثوري على الحدود الإيرانية مع العراق. وأعطت إشارات إلى أنها قادرة على حماية مصالحها. معركة أميرلي (الاسم الأصلي أمير علي) كانت مفصلية في هذا السياق. حضور قائد فيلق القدس الجنرال الإيراني قاسم سليماني بالغ الدلالات. جاء تحريرها بأيد عراقية وقيادة إيرانية، مرفقاً مع رفض جميع عروض المساعدة الجوية الأميركية في رسالة مباشرة لواشنطن بأن «الإيرانيين قادرون على حماية التجمعات الحليفة لهم».
اما النوع الثاني فتحذيري، عبر رسم مجموعة من الخطوط الحمر تحت طائلة قلب الطاولة على الجميع في العراق وسوريا. من بينها على سبيل المثال عدم التعرض للنظام السوري الذي يجب الاستحصال على موافقته على أي ضربة داخل الأراضي السورية.
بالتزامن، وضعت إيران يدها على الزناد وأخذت تراقب ما يجري وفق رؤية مبنية على مجموعة من الحسابات المعقدة. هي تدرك أن الأميركيين سيتجنبون خدمة محور المقاومة، وسيعملون على سيطرة فصائل موالية على الأماكن المشمولة بالعملية.
رسمت مجموعة من الخطوط الحمر تحت طائلة قلب الطاولة على الجميع في العراق وسوريا


ما يمنع ضرب النظام السوري قدرة الردع لدى محور المقاومة وليس أي شيء آخر

في العراق، لا يبدو أن الأميركيين قادرون على تحقيق شيء من هذا، أما في سوريا، فهم يحاولون مع حلفائهم ودون توقف، القيام بخطوة مماثلة من دون نجاح، فما الذي تغير اليوم؟
تدرك طهران أن المعركة كلها تدور في غير مناطق نفوذها، وأطرافها من غير المحسوبين عليها، وبالتالي فإن خسائر تلك المعركة لن تكون من حسابها. كل ذلك في ظل قرار صدر عن أعلى مستوى في إيران بعدم المشاركة في التحالف لأسباب متعددة، من بينها أن مشاركة كهذه تتعارض مع الصورة التي تقدمها إيران عن نفسها كند للولايات المتحدة. كما أن التحالف، وإن تقاطعت أهدافه بضرب «داعش» مع أهداف إيران، إلا أنه تقاطع ظرفي، ذلك أن أهدافه النهائية تتناقض ومشروع طهران في المنطقة. هناك أيضاً نظرية أن عدم المشاركة يعطي الجمهورية الإسلامية مساحة أكبر من المناورة، مع القدرة دوماً على تثمير ضربات التحالف لصالحها. لكن الأهم هو أن عدم مشاركتها يظّهر حقيقة أن الصراع ليس سنياً شيعياً، وإنما صراع مصالح ومشاريع، بدليل أن الأطراف المتقاتلة تنتمي إلى منظومة عرقية ومذهبية واحدة (داعش والنصرة والسعودية والإمارات والأردن وقطر).
البعد الثالث للمقاربة الإيرانية يفيد بأن التحالف مليء بالتناقضات التي ستفجره، أو تعطله. من السعودية، البيئة المؤسسة والحاضنة لـ»داعش» التي بات نظام آل سعود يخشى على نفسه منها، الى تركيا، الراعي الأمني واللوجستي والعسكري للتنظيم الذي بات يعتبر، بعد الخسارات الإقليمية المتتالية لأنقرة، أداة القوة الإقليمية الأساسية التي لا تزال تمتلكها. ثم هناك مصر، المتمسكة بإدراج «الإخوان المسلمين» ضمن أهداف التحالف باعتبارها تنظيماً إرهابياً، هي التي ترى أولويات المواجهة في كل من سيناء وليبيا والسودان، وصولاً الى قطر، الراعي المالي للتنظيم، الذي يتعرض لضغوط مزدوجة، خليجية وأميركية. والأردن، الذي يمثل خط الدفاع الإسرائيلي الأمامي، والذي اضطر إلى أن يرمي بنفسه في هذه المواجهة، في ظل وعد معلن بالتحرك الفوري لجيش الاحتلال دفاعاً عنه في حال بلوغ «داعش» أراضيه.
لكن، ماذا سيحصل لو استغل «التحالف» الغارات في سوريا ليوجه ضربة قاصمة للنظام؟
السؤال ترده المصادر الإيرانية الى فرضية تقوم على أنه سبق لأميركا أن أخذت قراراً بضرب النظام السوري وأنها كانت تنتظر الحجة، فجاءتها «داعش». «افتراض خاطئ» تؤكده المصادر التي ترى أن ضرب النظام السوري أميركياً ليس بحاجة إلى حجة، مشيرة إلى أن ملف الأسلحة الكيميائية كان يشكل، في حينه، حجة أقوى وسبباً أدعى ولم تحصل الحرب. ثم إن واشنطن لا تنقصها القوة النارية لضرب النظام السوري، ما منع أميركا وقتها من ضرب النظام – تقول المصادر – هو باختصار قدرة الردع لدى محور المقاومة، وهي للمناسبة «تزداد
قوة».
حتى اليوم، تسير العملية الأميركية وفق «ضوابط» تعتبرها إيران «آمنة أو غير خطرة»، فضلاً عن كونها تكشف عن أن عقدة الأميركي من النزول إلى البر تثقل حركته وتكبل يديه.
مراقب يستعيد الغزو الأميركي لأفغانستان عام 2001 وللعراق عام 2003، ويقول: «بينما كانت القذائف الأميركية تنهمر على كابول وبغداد، كان لسان حال الإيرانيين يقول: شكراً أيها الشيطان الأكبر»؛ فقد سقط حكم طالبان وحكم صدام، ومعهما زال حاجزان أعدّا خصيصاً لمنع تمدد النفوذ الإيراني»... فهل تتكرر الحادثة اليوم؟




نهاية هذه «المغامرة» لن تكون بيد أميركا

أتهم الرئيس الإيراني حسن روحاني «أجهزة مخابرات ودولاً»، لم يسمّها، بتمويل وتسليح الإرهابيين. ورأى أن الغرب يعتمد «استراتيجية مغلوطة» في الشرق الأوسط أدت إلى قيام ملاذات «للإرهابيين والمتطرفين». ودعا روحاني، في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة أمس، «أولئك الذين لعبوا دوراً في تمويل الإرهابيين» الى الاعتراف بخطأهم، وتقديم الاعتذار، «ليس من الشعوب فقط، ولكن من الأجيال القادمة». وفيما أكد أن الغرب يزرع الكراهية لدى شعوب العالم، رأى أن الحل الصحيح لهذه «الورطة» يأتي من داخل المنطقة وهو حلّ إقليمي، أما إذا أرادت دول أخرى أن تدعمه فيمكنها ذلك.
في السياق نفسه، أعلن مساعد وزير الخارجية للشؤون العربية والافريقية حسين أمير عبد اللهيان أن الضربات الجوية الأميركية على سوريا هي إعلامياً ضد «داعش»، إلا أنها تستهدف وبشكل واضح المدنيين والبنية التحتية في سوريا. وأضاف عبد اللهيان، في حديثٍ لوكالة الأنباء الإيرانية الرسمية، أن أميركا اتخذت القرار بالدخول العسكري وبانتهاك السيادة الوطنية لسوريا، مصطحبةً معها عدد قليل من دول المنطقة. وأضاف أن نهاية المغامرة لن تكون بيد أميركا، وأن طهران تدعم سوريا «وبقوة» في محاربة الإرهاب، مشيراً إلى أن مستقبل سوريا السياسي بيد الشعب السوري، وأن القوى الوطنية السورية لن تكون عميلة للأجانب.
(إرنا، أ ف ب)