«هل يؤدي تراكم رأس المال الخاص إلى تركّز الثروة في أيدي قلة متناقصة، كما اعتقد كارل ماركس في القرن التاسع عشر؟»، يسأل توماس بيكاتي، الاقتصادي الذي قد يُصبح أشهر من الفيلسوف الألماني بعد قرن ونصف قرن. أو في المقابل، «تؤدي قوى التوازن، وهي النمو والمنافسة والتطور التكنولوجي، في مراحل لاحقة، إلى خفض اللامساواة، وإلى تناغم أعظم بين الطبقات، كما اعتقد سايمون كوزنيتس في القرن العشرين؟»، يُكمل الخبير الفرنسي تساؤله.
يمثل هذا التساؤل عصب كتاب «رأس المال في القرن العشرين»، الذي يرفع بيكاتي إلى مصافّ الكتّاب النجوم برغم جفاف المادّة التي يعالجها. ولا يحتاج المرء إلى فطنة عالية ليستنتج أنّ الكتاب، هو أحد الطروحات الأكثر غنى التي تحاكي، قلباً وقالباً (العنوان مثلاً!)، ما بشر به/ حذر منه ماركس.
التساؤل حول إدارة المجتمعات والعولمة عمره من عمر الثورة الصناعية الأولى. لبرهة في مسار البشرية، بدا أنّ الرأسمالية الاجتماعية قادرة على تقديم الجواب الشافي، لكن سرعان ما اتضح السراب. ففي ظلّ المصالح الكونية المتشابكة، ليس هناك بديل عن تدخّل الدول المسؤولة لتصويب عملية توليد الثورة لتفيد الصالح العام.
معتمداً على بيانات سخية من مصادر وفيرة، يخلص الكتاب الفرنسي، الذي تُرجم منذ ثلاثة أشهر إلى الإنكليزية، وتصدّر المبيعات على موقع «أمازون»، إلى التالي: ليس هناك أي سبب يدفعنا للإيمان بأنّ الرأسمالية، وعلى نحو طبيعي، ستعكس وحدها مسار تعاظم اللامساواة وغياب العدالة في توزّع الدخل.
للوصول إلى الاستنتاجات يستند الاقتصادي إلى قياس معدّل رأس المال – أو الثروة – إلى مجمل ما يُنتجه اقتصاد كلّ البلد سنوياً (أي الناتج المحلي الإجمالي). يراقب هذا المعدل على مرحلة 300 عام. فبين عام 1700 وعشية الحرب العالمية الأولى، يلحظ لامساواة حادة في أوروبا، حيث كان المعدل المذكور 700%؛ مثلاً في عام 1910 ، 10% فقط من سكان أوروبا، كانوا يسيطرون على 90% من ثروة القارة.

الولايات المتّحدة
هي التي ابتكرت نظام الضريبة التصاعدية
على الثروة
لكن بعد الحرب، أكمل المعدل المذكور على مسار انحداري، مع تسجيل معدلات النمو في الغرب مستويات لافتة، وتحديداً بعد الحرب العالمية الثانية، مدعومة بإنفاق دول الرعاية الاجتماعية. وصل هذا الطريق إلى نهاية، مع صعود النيوليبرالية في قلب أوروبا والولايات المتّحدة، ومع انتهاء عقود النموّ السخي.
بالنظر إلى الأمام، يتوقع بيكاتي أن يبلغ العائد السنوي على رأس المال عالمياً 4.3% بين عامي 2012 و2050، أما النمو الاقتصادي العالمي، الذي يحدّ الناتج، فسيبلغ 3.3%. لهذا الفرق البالغ نقطة مئوية كاملة، تداعيات خطيرة على معدلات العدالة، لكن الأمور تُصبح أسوا. فبين عامي 2050 و2100 سيبقى معدل العائد السنوي على رأس المال كما هو، فيما سيهوي معدل النمو إلى 1.6%.
باختصار، الأغنياء سيزدادون غنى والفقراء سيزدادون فقراً.
أمام هذه الاستنتاجات، التي يُعبّر عنها بمعادلة أضحت من الأشهر في مجال الرياضيات التطبيقية – أي إن العائد على رأس المال أكبر من معدّل النموّ – يطرح الاقتصادي الفرنسي فرض ضريبة عالمية على الثروة لتعزيز الحركية في المجتمعات، أو ما يُسمّيه «إمكانية الانتقال الطبقي».
هذا الطرح يبدو بعيداً عن التحقيق في المستقبل القريب، غير أنّه يؤسّس لاعتماد سياسات عامّة تعكس فعلياً هواجس البشرية: اتساع هوة العدالة، وخصوصاً في ظلّ التقدّم التكنولوجي اللافت.
لا يطمح توماس بيكاتي إلى ثورة عمالية تقلب الموازين وتأتي بقادة شيوعيين إلى البيت الأبيض وإلى الإليزيه.
أخيراً، وفي ضيافة الإعلامي الساخر ستيفين كولبير، ركّز على ضرورة تصحيح مسار أميركا. برأيه، فإنّ اللامساواة مقبولة إلى حدّ معين، فإذا أصبحت متطرفة وتؤدي إلى اضطرابات وتعاظمت عبر الأجيال، تصبح خطيرة، لأنّ على المجتمع أن يتيح لأبنائه القدرة على الحراك الطبقي، أي القدرة على العمل والارتقاء من طبقة إلى أخرى.
يُذكّر بيكاتي بأنّ الولايات المتّحدة هي التي ابتكرت نظام الضريبة التصاعدية على الثروة، الأمر الذي نسيه الجميع منذ بداية الثمانينيات، لأنّ البلاد انتقلت إلى مسار مختلف كلياً؛ أي مع مجيء الرئيس رونالد ريغن وانطلاق سياسات السوق النيوليبرالية.

هل تبدأ الثورة
فعلاً من أميركا؟
هل يبدأ العمال
بالاتحاد هناك

اليوم، يُفيد المصرف المركزي الأميركي في مسح نشره أخيراً، بأنّ ثروة «العائلات الأميركية»، أي ثروة الشعب باستثناء الشركات، بلغت 81.8 تريليون دولار في نهاية الفصل الأول من العام الجاري، مرتفعة بواقع 1500 مليار دولار تقريباً على أساس سنوي. فتكون تلك الثروات، قد تخطت بأشواط المستوى المنخفض الذي سجلته خلال الأزمة المالية / الاقتصادية، التي عصفت في البلاد عام 2009، حين كانت 51.2 تريليون دولار.
لكن بالتوازي مع تسجيل هذا الرقم القياسي للثروات الأميركية، يتصاعد الحديث عن غياب العدالة وترسّخ عدم المساواة في مجتمع يُعدّ رُكن العولمة المالية والاقتصادية.
اليوم، أضحى مشهد احتجاجات العمال في سلاسل المطاعم السريعة، مثل «ماكدونالدز» و«بيرغر كينغ»، للمطالبة برفع الحد الأدنى للأجور، مشهداً يومياً. والفجوة ليست عمودية فقط، ففيما رفعت مدينة سياتل الأميركية الحدّ الادنى للأجور إلى 15 دولارا في الساعة، إلا أنه لا يزال عند نصف هذا المستوى في معظم الولايات، في وقت تستعد فيه السلطات الفدرالية لرفعه تدريجياً إلى 10.1 دولارات.
فهل تبدأ الثورة فعلاً من أميركا؟ هل يبدأ العمال بالاتحاد هناك حاملين نسخاً من كتاب رأس المال (الجديد)؟




الفقراء لن يعلموا!


«لماذا تحاول هدم النظام الاقتصادي الغربي واستبداله بنظام اشتراكي يعيد توزيع الثروة؟»، يسأل الإعلامي الأميركي ستيفين كولبير ضيفه توماس بيكاتي بسخرية.
ينفي الاقتصادي الفرنسي هذه التهمة، مؤكداً أن هدفه هو أن «يستفيد الجميع من العولمة»، وأن يستطيعوا «تعلم المهارات والحصول على وظائف جيدة».
يُذكّر بيكاتي بأنّ الحد الأدنى للأجور في الولايات المتّحدة هو، اليوم، أدنى مما كان عليه في الستينيات. ويعلّق على بياناته بالقول: «بالتأكيد هذا ليس أفضل ما يُمكن فعله!». ويضيف إنه «إذا كانت الأجور ثابتة فإنّه من الصعب جداً على (الأجراء) أن يبدأوا بمراكمة الثروة؛ كيف تراكم الثروة من لا شيء؟». يتابع: «أما إذا بدأت بثروة أولية هائلة، فإن الوضع يتغير».
لكن جميع الحجج لا تؤثّر في كولبير «المحافظ»، فيحسم الجدال مستخدماً المستوى ذاته من التهكّم: على أي حال «... يبلغ سعر الكتاب 40 دولار، وبالتالي فإنّ الفقراء لن يعرفوا ما خلاصاته!»، غير أن الفقراء يشعرون بما يقوله الكتاب، وإن لم يلمسوا نعومة صفحاته، أو يروا بريق غلافه عبر موقع «أمازون».