نيويورك | كان داغ همرشولد متوجهاً إلى روديسيا الشمالية التي تعرف حالياً بزامبيا عندما سقطت الطائرة التي كانت تقله في غابة على بعد تسعة أميال من مطار ندولا، بعيد منتصف الليل في ١٨ أيلول ١٩٦١. تلك الطائرة التي أقلته كانت من طراز دكوتا ـ ٦ إحدى أفضل طائرات الركاب المروحية في ذلك الزمن. ذهب همرشولد للتفاوض مع مويس تشومبي، قائد مقاطعة كاتانغا الانفصالية في جمهورية الكونغو الحديثة الاستقلال. وقد عارض همرشولد فكرة انفصال كاتانغا عن الكونغو، إلى حد أن قوات الأمم المتحدة قاتلت المرتزقة الذين كانوا يقاتلون في كاتانغا على بعد ١٠٠ ميل من المطار الذي كان ينوي الأمين العام أن يحطّ فيه.
ولم يتوصل تحقيقان أجرتهما الأمم المتحدة والسويد إلى نتيجة عن أسباب تحطم الطائرة. وخلصا في النهاية إلى أن الحادث ناجم عن خطأ ارتكبه الطيار. وطلب التقرير الأخير الذي قدم للأمم المتحدة عام ١٩٦٢ من الأمين العام إبلاغ الجمعية العامة عن أي دلائل جديدة قد تظهر حول ملابسات الحادث. وهذا ما فعله الأمين العام الحالي بان كي مون بإبلاغه الجمعية العامة، بناء على طلب نصّ عليه تقرير صدر عن لجنة مستقلة.

لم يتوصل تحقيقان أجرتهما الأمم المتحدة والسويد إلى نتيجة عن أسباب تحطم الطائرة
في عام ٢٠١٢، طلبت هيئة تحقيق مستقلة شارك فيها القاضي الشهير من جنوب أفريقيا ريتشارد غولدستون فتح تحقيق جديد بناء على معلومات جديدة تدل على أن الطائرة كانت مستهدفة وأسقطت بعمل عسكري. وبموجب تقرير الهيئة، طلب الأمين العام الحالي بان كي مون إعادة فتح التحقيق وأعيد وضع القضية مجدداً على أجندة الجمعية العامة للأمم المتحدة في آذار الماضي، وسط تكهنات بأن الطائرة التي أقلّته إما تعرضت للتخريب أو أسقطت بهجوم مباشر في الجو.
جو لوريا، مراسل صحيفة «وول ستريت جورنال» لدى الأمم المتحدة، تابع التحقيقات. وقال إن التقرير الذي صدر في أيلول الماضي أثار احتمالية حيازة وكالة الأمن القومي الأميركي وغيرها من الوكالات الأمنية الأميركية مكالمة لاسلكية جرت بين طيار من المرتزقة ادعى أنه نفذ الهجوم ضد الطائرة التي كانت تقل الأمين العام وبين جهة أخرى. وكانت وكالة الأمن القومي قد نفت علمها بملابسات سقوط الطائرة، لكنها أفادت عن وجود وثيقتين تتعلقان بالحادث قررت التكتم عنهما. هيئة التحقيق المستقلة استندت في تحقيقها إلى ما ورد في كتاب للمؤلفة البريطانية سوزان وليامز بعنوان «من قتل همرشولد» صدر عام ٢٠١١. وقال تقرير الهيئة إن ما ورد من معلومات في الكتاب تكفي في حدّ ذاتها لإعادة فتح تحقيق لأن الطائرة «أرغمت على الهبوط بعمل عدائي».
وبنتيجة قرار الأمين العام، لا بد للجمعية العامة من أن تعيد فتح النقاش وأن تصدر قراراً بالتصويت يعيد فتح التحقيق الأممي رسمياً.
وفي الملابسات التي وردت في تقرير هيئة التحقيق المستقلة أن المؤلف تشارلز ساوثول، وهو قائد سابق في سلاح البحرية الأميركية، كان يعمل في مركز تنصت في قبرص ليلة سقوط الطائرة. وقد حققت الهيئة وسوزان وليامز مع سوثول. وقال سوثول لمراسل «وول ستريت»، جو لوريا، إنه استدعي للعمل تلك الليلة من قبل رئيسه الذي بعث إليه برسالة مشفّرة ينبهه فيها إلى ضرورة التنبه لحدث كبير منتظر. وجرت المكالمة بينهما قبل ثلاث ساعات فقط من سقوط الطائرة. وأشار إلى أن المكالمة تم التقاطها بشكل اعتراضي قبل سبع دقائق من تلقيه لها. وقال سوثول لمراسل «وول ستريت» إنه سمع من الطيار الذي كان يرصد رسائله اللاسلكية يقول، «أشاهد طائرة تقترب منخفضة سأقوم بمهاجمتها». وأضاف سوثول، «بعدها كان بإمكانك سماع صوت المدفع، والطيار يقول: النيران تشتعل فيها. لقد أصبتها، وسرعان ما سقطت».
لم تحصل هيئة التحقيق المستقلة على نص المكالمة التي تحدث عنها القائد في سلاح البحرية الأميركية بعد طلبه من وكالة الأمن القومي. وقال سوثول لمراسل الصحيفة إن المكالمة الملتقطة جاءت من وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية. ولم يمكن الحصول على ردّ من الوكالة بعد محاولة المراسل.
أما التقرير، فقد أكد أن الحصول على نص المكالمة من شأنه أن يوفر الدليل القاطع للكشف عما حصل. لكن بناءً على طلب هيئة التحقيق المستقلة، أفرجت الخارجية الأميركية عن وثيقة سرّية عثر عليها في أرشيف وكالة الأمن القومي مرسلة من سفير الولايات المتحدة في الكونغو، إدموند غوليون، بعد يومين من تحطم الطائرة. وجاء في الرسالة، «هناك احتمال أن يكون السيد همرشولد أسقط على يد الطيار الوحيد الذي ضايق عملية الأمم المتحدة». وحدد هوية الطيار بأنه كان بلجيكياً من المرتزقة التابعين لجان فان ريسيغيم الذي توفي عام ٢٠٠٧.

قال سكان محليين
رأوا سقوط الطائرة
إنهم شاهدوها
تهوي مشتعلة

ورغم أن التكهنات بإسقاط الطائرة ظهرت في وقت مبكر، إلا أنها كانت المرة الأولى التي تخرج للعلن وثيقة رسمية أميركية تتحدث عن الاغتيال وعلى لسان سفير الولايات المتحدة. وهي المرة الأولى التي يذكر فيها قائد المرتزقة فان ريسيغم بالاسم.
وتأكيداً لهذه النظرية، قال شهود عيان من السكان المحليين الذين رأوا سقوط الطائرة إنهم شاهدوها تهوي مشتعلة. لكن التحقيق الرسمي آنذاك، سواء من الأمم المتحدة أو من حكومة روديسيا الشمالية، تجاهل شهاداتهم وقبل نظرية خطأ الطيار على أساس أنهم شهود لا يعتدّ بهم. كذلك تم تجاهل ما قاله ضابط أمن تابع للأمم المتحدة نجا من الحادث وهو في المستشفى وبقي على قيد الحياة مدة ستة أيام، حيث أكد لأطبائه سماع انفجارات داخل الطائرة. لكن لجان التحقيق تجاهلت شهادته.
ومن المسائل الغامضة الأخرى أن الهيئة المستقلة انتقدت تجاهل توقيف طاقم طائرة نرويجي ذهب للبحث عن حطام الطائرة في مطار ندولا. وبعد الإفراج عنه، ظل يبحث لمدة ١٥ ساعة عنها مع أن مكانها معروف، وكان المرتزقة هناك ومعهم جنود ورجال شرطة روديسيون.
التحقيق الجديد قد يتناول رواية طيار مرتزق ثان ادّعى أنه أسقط الطائرة عن طريق الخطأ أثناء عملية اختطاف فاشلة. وسينظر أيضاً في حقيقة أن جثة همرشولد كانت الوحيدة التي نجت من الحريق وعثر تحت ياقة قميصه على ورقة لعب (شدّة) من فئة آس.
أمر يفسّر عادة بأنه رسالة فوز. لكن ربما كان أهم ما ورد في نتائج التحقيق الأخير على يد الهيئة المستقلة التي شارك فيها القاضي ريتشارد غولدستون، ولم تنشره «وول ستريت جورنال»، هو أن اللجنة ربطت بين الجريمة والوضع السياسي السائد في المنطقة خلال تلك الفترة. وقالت إن مصالح كبيرة كانت تتصارع في المنطقة.



الدفاع عن أفريقيا

كان داغ همرشولد يدافع عن المصالح الوطنية الأفريقية. وكان اتحاد روديسيا ونياسالاند وجنوب أفريقيا «يدعم استقلال كاتانغا من أجل المحافظة على الإقليم كمنطقة عازلة في وجه النزعة القومية الأفريقية». كما أن شركة التعدين البلجيكية «يونيون دي هاوت كاتانغ» دعمت استقلال المقاطعة الغنية باليورانيوم والكوبالت، في زمن كانت فيه كاتانغا تزوّد العالم بثمانين في المئة من الكوبالت المستخدم في البطاريات ومحركات الطائرات النفاثة والصناعة الطبية.
أما اليورانيوم المستخرج من المقاطعة، فقد استخدم في صنع القنبلتين النوويتين اللتين ضربتا مدينتي هيروشيما وناكازاكي اليابانيتين. والسيطرة على المقاطعة يحرم الاتحاد السوفياتي من دخول الكونغو، وكانت تلك من أولويات وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، أيضاً حسب تقرير الهيئة المستقلة التي قالت أيضاً إن شركة التعدين «يونيون مينير» هي التي موّلت حكومة كاتانغا الانفصالية وجندت لها مئات المرتزقة من أجل مقاتلة قوات الأمم المتحدة في كاتانغا.