قد يكون للتسريب الأخير الذي قامت به وكالة «أسوشييتد برس»، أهمية بالغة حول فهم طبيعة ما جرى في بلادنا العربية من أحداث خلال السنوات الأربع الماضية، التي باتت تعرف الآن بـ«الربيع العربي». فما كشفته الـ«أسوشييتد برس» يوم أمس، يدفع إلى الاعتقاد بأن ما حُصر بالدول العربية من ثورات وانقلابات، قد يكون جزءاً من مخطط أكبر، استهدف دولاً أخرى على المقلب الآخر من المحيط، في أميركا اللاتينية التي لا تزال تعادي بغالبيتها الولايات المتحدة في السياسة والأيديولوجيا.
التحقيق الذي قام به باحثون من تلك الوكالة فضح تورط الإدارة الأميركية في تصميم شبكة تواصل اجتماعي للكوبيين فقط يدعى «زون زونيو»، شبيهة بـ«تويتر»، هدفها الأساسي هو مساعدة الكوبيين على التعبير عن آرائهم، وفي مرحلة متقدمة من عمر المشروع، تشكيل «مجموعات ذكية» تعمل على تنظيم احتجاجات ضد السلطة، شبيهة بتلك التي تم تنظيمها في بلادنا العربية.
وتم بدء العمل على المشروع في كانون الأول من عام 2009، من قبل «كرييتف اسوشييتس أنترناشونال» وهي شركة أميركية ربحية تتخذ من واشنطن مركزاً لها، بتغطية مباشرة من برنامج المساعدة الأميركي الحكومي الـ«USAID». أول خطوة كانت إيجاد عميل من داخل الشركة الكوبية الرسمية للاتصالات «كوباسيل»، يسهّل نقل أرقام ملايين الكوبيين إلى قاعدة خارج البلاد، وهو ما قام به أحد الموظفين الكبار داخل «كوباسيل» بدون مقابل مادي. بعدها تم التواصل مع أحد «عباقرة المعلوماتية» في نيكاراغوا من أجل العمل على إرسال أكثر من نصف مليون رسالة نصية خفيفة المضمون للكوبيين، عن أمور كالرياضة والموسيقى، بطريقة لا تسمح للسلطات في كوبا بالتعرف إلى هوية مرسل تلك الرسائل، كونها تفرض رقابة شديدة على شبكة الإنترنت. كما اتخذ المسؤولون عن العملية عدة خطوات لمحو آثارهم وإزالة الشكوك، فافتتحوا حساباً للشركة التي تدير الشبكة في جزر كايمان، فيما شكلت الأراضي الإسبانية المركز الحقيقي لإدارة الأمور المثيرة للشكوك، حيث قامت «USAID» بإنشاء شركة فيها لهذه الغاية.
لم تكن هذه المشكلة الوحيدة التي واجهها المنفذون، بل كان عليهم أيضاً إخفاء الأمر عن الحكومة الأميركية! فمؤسسة «كرييتف اسوشييتد أنترناشونال» كانت قد صرّحت للحكومة بأنها صرفت 1.6 مليون دولار على مشروع غير محدد الهدف في باكستان، فيما كان قد تم إنفاق الأموال بالكامل على شبكة «زون زونيو». لكن يبدو أن للـ«USAID» سوابق في الدخول بمشاريع سياسية بعيدة عن دورها المحصور بالمساعدات الإنسانية، ففي تقرير حكومي يعود لعام 2009، ذُكر أن المؤسسة «غالباً ما تدخل في دهاليز سياسية من الممكن أن تؤدي إلى مشاكل على الصعيد الدبلوماسي».
كذلك قال عضو لجنة مجلس الشيوخ للعلاقات الخارجية، فلتون أرمسترونغ، حين سئل عن محادثة دارت بينه وبين أحد المسؤلين عن «زون زونيو»، «قيل لنا إنهم لا يستطيعون أن يكشفوا لنا ما يحدث لأن أناساً سوف يموتون». إلا أنه بعد مدة من الزمن أصبحت الحكومة الأميركية على علم كامل بما يحصل، لكنها لم تتحرك لإيقاف المخطط.
في هذا الوقت، كان «زون زونيو» قد لقيت رواجاً بين الكوبيين، وبدأوا بتبادل الرسائل عبرها، فوصل عدد المشتركين فيه إلى أربعين ألفاً. وازدياد عدد المشتركين رتّب أعباء إضافية على المسؤولين المكلفين بإبقاء مصدر تمويل الشبكة مخفياً، فكلما زاد عدد الرواد زادت الأعين المراقبة. عندها بدأت «كرييتف أسوشييتس أنترناشونال» بالعمل بجهد أكبر لتخفي تورط الحكومة الأميركية في هذا المشروع، فتعاقدت مع شركة أميركية أخرى تختص بهذا المجال. أما الموظفون ممن يسيّرون الأعمال اليومية للشبكة في كوبا، فكانوا أناساً عاديين من دون أي علم بما يدور في الأروقة الخلفية (غير أن البعض منهم لم يبدِ أي شعور بالندم بعدما تم الكشف عن الأهداف الحقيقية للشركة)، وهذا ما راهنت عليه «كرييتف» لضمان عدم إثارة شكوك «كوباسيل». لكن العبء الثقيل المرتبط بإخفاء تورط الحكومة الأميركية تبيّن أنه أكبر من أن تتحمله «كرييتف» والـ«USAID» من ورائها، زد على ذلك أن الأخيرة كانت تدفع آلاف الدولارات، من خلال شركة الواجهة التي أسستها في إسبانيا، كضرائب للحكومة الكوبية التي تعتبر حكومة معادية، وهذا ما لم يكن باستطاعتها تبريره؛ هذه العوامل دفعتها إلى إلغاء المشروع وإقفال الشبكة أوائل عام 2011.
وعلى الرغم من أن المشروع قد ألغي الآن، إلا أن الكشف عنه قد يتسبب بمشاكل وتعقيدات للولايات المتحدة، فإسبانيا التي شكلت أراضيها معقلاً للشركة التي أسستها الـ«USAID»، خرقت القانون الإسباني المتعلق بالمعلومات الشخصية للأفراد، فهي قامت بجمع معلومات عن نصف مليون مواطن كوبي بشكل غير شرعي، مستخدمةً أراضيها. هذا عدا عن الإحراج الذي سيتسبب به هذا التحقيق والذي يساهم في تعزيز صورة الولايات المتحدة كمنتهكة لخصوصية الأفراد حول العالم. أما عن مصدر الوحي الذي دفع بالأميركيين إلى تنفيذ هذا المشروع، فيشير مسؤولون في «USAID» إلى أن الأحداث التي شهدتها دول كمولدوفا والفيليبين، بالإضافة إلى إيران إبان الانتخابات الرئاسية عام 2009 والتي أسفرت عن إعادة انتخاب محمود أحمدي نجاد رئيساً لولاية ثانية، جعلت المسؤولين الأميركيين ينظرون إلى الإنترنت كسلاح سياسي فعال لإثارة المشاكل وزعزعة الحكم في الدول التي يرونها تشكل تهديداً لهم أو لا تتفق مع نظرتهم للديموقراطية.



شباب كوبا تفاعلوا يإيجابية مع«زون زونيو»

على الرغم من أن «زون زونيو» لم تكن سوى وسيلة استخبارية لإثارة الاضطرابات في الداخل الكوبي، إلا أن شباب كوبا عبّروا عن إعجابهم بالشبكة. فمثلاً اعتبرت سايمي رييس كارمونا، وهي طالبة جامعية، أن الشبكة كانت جذابة نظراً إلى كونها مجانية، وتقول: «بدأت بإرسال رسالة واحدة في اليوم، ولم يكن لديّ متابعون».
وتتابع «إلا أنه بعد شهر واحد، أصبح الجميع يريدون الاشتراك وأصبح لديّ أكثر من ألفي متابع». وتضيف «إنه أجمل شيء رأيته».
أما صديقها إيرنيتو غيرّا فيقول: «كان شيئاً رائعاً، وجدته غريباً بعض الشيء، كل ذلك الكرم واللطف! لقد كان الأب الروحي للهواتف المحمولة». كما أنهم عبروا عن حزنهم لإلغائه، فيقول غيرّا: «في النهاية، لم نعرف ماذا حصل وتسبب بإلغائها، كما أننا لم نعرف من أين كان مصدرها».