سركيس قصارجيانلم ينتظر رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان طويلاً بعد إقفال صناديق الاقتراع ليلقي «خطاب الشرفة» الذي جاء بمثابة إعلان انتصار حزبه بمحتوى «استفزازي» أكثر من كونه استعراضاً للقوى وإمكانيات التحدي كما جرت العادة.
حزب العدالة والتنمية نجح في حصد بلديات ٤٩ مقاطعة تركية من أصل ٨١ مقابل ١٣ كرسياً لغريمه السياسي التقليدي «المعارضة الأم» حزب الشعب الجمهوري. وفي حين كسب حزب السلام والديمقراطية الكردي، الذي يعرف في الداخل التركي بأنه الجناج السياسي لحزب العمال الكردستاني المحظور في البلاد، نال اليمين المتطرف والمتمثل في الحركة القومية ٨ كراس، فاقداً رئاسة بلديتين لمصلحة الحزب الاسلامي المعتدل.
إذاً خالف العدالة والتنمية توقعات «الفوز الخجول» متجاوزاً نسبة ٤٥٪ مقابل ٣٨.٨٪ في الانتخابات الماضية (٢٠٠٩) رغم التظاهرات المنددة بسياسات زعيمه الأوحد رجب طيب أردوغان الذي دخل التاريخ كأول رئيس بلدية من خلفية إسلامية عام ١٩٩٤ ليكسر احتكار الحزب العلماني للكرسي المذكور بعد سلسلة رؤساء، انتخاباً تارة وتعييناً في أحيان كثيرة.
المتابع للشأن التركي يدرك جيداً خصوصية الانتخابات البلدية بالنسبة إلى الشعب الذي لم يجد أمامه خياراً بديلاً من العسكر المدعم بالانقلابات الدامية وحزب الشعب الجمهوري العلماني بواجهته اليسارية والمعتمدة على البورجوازية التركية المقربة من الغرب والولايات المتحدة سابقاً، وسبب المعاناة من الفقر والبطالة بالنسبة إلى الكثير من المواطنين المتهمين إياه بإغراق البلاد في سيل من الديون الجارفة، سوى بالالتجاء إلى الاسلام المتعدل.

فعل ذلك هرباً من اليمين القومي المتطرف والديني الأكثر تطرفاً، والمتمثلين بحزبي الحركة القومية والسعادة وريث حزب الرفاه للأب الروحي للإسلام السياسي الراحل نجم الدين أربكان، معلم أردوغان الذي أنكره لاحقاً. وعليه، كانت معادلة العدالة والتنمية بالنسبة إلى الشعب «لسنا الأفضل لكننا الوحيدون».
هذه الخصوصية تتمثل بالدرجة الأولى في اختيار الناخب التركي للمرشح اعتماداً على شخصه وسمعته أكثر منه لجهته السياسية وبرنامج حزبه الانتخابي. وهو ما يظهر جلياً في حالة عدد من الرؤساء، كما هي الحال بالنسبة إلى العاصمة أنقرة التي شهدت منافسة حادة لأول مرة منذ أكثر من ٤ دورات انتخابية نال «العدالة والتنمية» خلالها الكرسي المذكور بأريحية مطلقة، وهاتاي (لواء إسكندرون) ٢٠٠٩ حينما نجح مرشحون في الحصول على أصوات الناخبين لدورتين متتاليتين تحت لواء حزبين مختلفين، إسلامياً تارة وعلمانياً تارة أخرى. نظرية لا يمكن تطبيقها على الانتخابات البرلمانية التي يتم خلالها التصويت للمرشح أحياناً من دون معرفة اسمه بل اعتماداً على الانتماء الحزبي.
هي الخصوصية ذاتها التي استغلها كلاً من الشعب الجمهوري والحركة القومية لكسر مرشح العدالة والتنمية في عدد من مجالس المقاطعات في محاولة للظهور ككتلة واحدة من دون الإعلان عن تحالف انتحابي واضح وصريح في هذه المقاطعات المحسومة النتيجة سلفاً لجهة فوز مرشح أردوغان.
وهي الخصوصية ذاتها التي أتت برجب طيب أردوغان إلى رئاسة بلدية إسطنبول قبل ٢٠ عاماً كأول رئيس شاب، تقي، نظيف السمعة، عانى «الاعتقال التعسفي» بسبب إلقائه بضع أبيات شعرية لم ترق حينها جنرالات المؤسسة العسكرية.
الرجل الذي نجح في تسويق نفسه كزعيم مناصر للقضايا الاسلامية في المنطقة ومعاناة الشعوب المسلمة في جميع أرجاء المعمورة، عمل بكد وجهد على برنامج داخلي أدى إلى تشكيل قاعدة جماهيرية لا يستهان بها خلال فترة قصيرة في صفوف الطبقة الفقيرة، إضافة إلى إسلاميي الهوى.
فوفق إحصاءات نشرها الصحافي يالتشين دوغان قبيل انتخابات الـ٢٠٠٩، قام حزب العدالة والتنمية بتنسيب أكثر من ٢٠٠ ألف عضو جديد بين عامي ١٩٩٥ــ٩٧، وبلغ عدد الندوات في حينها ٤٣٦٥، وعدد المؤتمرات ١٥٧٢، وعدد الأفلام المعروضة ١٥٦٤، يضاف إلى هذا كله، وفي الفترة المذكورة، ١٤٢٣١ زيارة لمنازل عائلات فقيرة في مناطق السكن العشوائي، و٣٧٤٠ زيارة للتبريك بأعياد الميلاد، و٤٢١٥ زيارة تعزية، و٢٦٥٦ زيارة للتهنئة بزواج، و١٨٦٢٨ جلسة شاي، و٣١٠ رحلات اصطياف، وزيارات للمدارس والمستشفيات والورش المهنية والحرفية. كل هذه الفعاليات أدت إلى لقاء بلدية إسطنبول فقط ١٢٢٦٥٧٥ مواطناً وجهاً لوجه.
وإن كانت السلطة قد انتصرت والمعارضة نجحت في رفع نسبة أصواتها، فمن الذي خسر في هذه الانتخابات؟
الجواب، وببساطة، هو اليسار التركي المنقسم بين «اليسار الإصلاحي» المتهم بتلقّيه الدعم من الحكومة التركية لإضعاف «اليسار الثوري» الذي نجح في الأحداث الأخيرة في حشد ما يقارب ٣ ملايين مواطن في شوارع المدن التركية الرئيسية للمرة الأولى في تاريخ الجمهورية الأتاتوركية.
٦ أحزاب يسارية «مؤمنة بالاصلاح بدل السلاح» من أصل ٧ خاضت الانتخابات البلدية، لم يتخطّ عدد الأصوات التي حظيت بها بضعة آلاف، عدا حزب السلام والديمقراطية الكردي المتهم بنزعته الانفصالية الذي حصد كافة بلديات «كردستان تركيا» بمرشح «مستقل» في ماردين بسبب منعه من مزاولة العمل السياسي بقرار من المحكمة التركية.
قد يكون انتصار أردوغان، رغم ملفات الفساد وقمع الحريات والنيل من علمانية الدولة ودعم التطرف الديني التي تلاحقه، حافزاً للاستمرار أو حتى التمادي في سياساته المتحدية لدول إقليمية عظمى وأخرى نافذة في المنطقة. لكن نتائج الانتخابات تنذر من دون أدنى شك بعام مليء بالمشاكل الداخلية التي قد تكون حادثة وفاة المواطنين الثمانية بالتزامن مع سير العملية الانتخابية نذير شؤوم «للإسلامي النموذجي» في المنطقة.