إسطنبول | للمرة الثامنة منذ تأسيس حزب العدالة والتنمية عام ٢٠٠١، خرج رئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان منتصراً من عملية انتخابية جديدة أثبتت للجميع العديد من الحقائق الخاصة بتركيا، وأهمها ذكاء هذا الرجل وسلوكيات الإنسان التركي الذي أثبت في انتخابات أول من أمس أنه غير مبالٍ إلا بما يقوله له رئيس الحكومة، وكأنه قول حكيم مطلقاً.
وهي الحقيقة التي أدركها جيداً أردوغان واستغلها بنحو ناجح جداً في إطار تكتيكات ذكية حولت الانتخابات البلدية إلى استفتاء على مصير ومستقبل الأمة والدولة التركية التي قال عنها أردوغان إنها مستهدفة من قبل القوى الخارجية وأداتها في الداخل فتح الله غولن وأحزاب المعارضة.
ويمكن أن نقرأ الانتخابات ونتائجها وفق العناوين الرئيسية الآتية:
١- خلال الحملة الانتخابية، لم يتحدث أحد عن أمور تخص البلديات، بل كان الموضوع الرئيسي بالنسبة إلى المعارضة هو قضايا الفساد والتسريبات الصوتية الخاصة. واستغل أردوغان ذلك بذكاء ليظهر بمظهر المظلوم وليضمن بذلك نقاط الضعف لدى المواطن التركي المعروف عنه تعاطفه الإنساني مع المظلوم، وهو ما استغله رئيس الحكومة خلال كل الانتخابات الماضية، تارة في تحديه للعسكر، وتارة أخرى في موضوع الحجاب وأخرى في حربه مع العلمانيين «أعداء الإسلام والاستقرار السياسي والاقتصادي».
أثبت أردوغان
احترافه المهني سياسياً بفهمه عقلية الطبقات المتوسطة والفقيرة


حزب الشعب الجمهوري
لم يستخلص الدروس من التجارب الانتخابية
٢- حزب العدالة والتنمية الحاكم الذي حصل على ٥٠٪ في انتخابات البرلمان ٢٠١١ وحظي بتأييد ٥٨٪ من الناخبين في استفتاء أيلول ٢٠١٠ خسر في هذه الانتخابات ٤،٥ نقاط فقط. وهو ما يعني أن شعبية الداعية الإسلامي فتح الله غولن لم تكن كما توقع البعض، حيث إنها لم تتجاوز ٢-٣٪ فقط، وخاصة إذا ما انتبهنا إلى الزيادة الجدية في نسبة التصويت التي يقال إنها وصلت إلى ٩٠٪ تقريباً بزيادة ٢٪ من نسبة التصويت في انتخابات ٢٠١١. وتثبت هذه النسب العالية مدى حماسة الناخب التركي للعملية الديموقراطية ومهما كانت خلفياتها وأسبابها ومبرراتها المباشرة وغير المباشرة. كذلك بات واضحاً أن الإسلاميين من أنصار غولن وأتباعه، ورغم التعليمات الموجهة إليهم، لم يصوتوا لحزب الشعب الجمهوري المعارض «اليساري» وفشل مرة أخرى في إقناع الناخب التركي بصحة نهجه السياسي والعقائدي والاقتصادي. كذلك أثبتت نتائج الانتخابات فشل مخطط حزب الشعب الجمهوري في الانفتاح على القوميين والإسلاميين والليبراليين الذين لم يسهموا في أي زيادة جدية في شعبية الحزب باستثناء تلك النسبة البسيطة في أنقرة وإسطنبول.
٣- استنفر حزب العدالة والتنمية إمكانات الدولة، خدمة لحملته الانتخابية، بعد أن استدرج المعارضة لمناورته في تحويل الانتخابات إلى استفتاء، علماً أنه كان المستفيد أيضاً لو بقيت الانتخابات في إطار البلديات، لأنه قدم للمواطنين خدمات مهمة جداً في البلديات وقطاعات خدمية أخرى، وأهمها الصحة، وهو ما أسهم في استمرار الدعم الشعبي له، بعد أن أثبتت المعطيات أن غالبية الذين صوتوا للحزب المذكور هم المستفيدون منه مادياً مباشرة، وبفضل سيطرة الحزب على جميع مرافق ومؤسسات وأجهزة الدولة التي تعني توظيف مئات الآلاف وتحقيق مكاسب تقدر بالمليارات عبر مناقصات وعطاءات الدولة التركية، وكذلك المساعدات المادية والعينية والخدمية التي تقدمها البلديات للملايين من المواطنين الفقراء، وهمهم الوحيد حياتهم اليومية.
٤- النتائج أثبتت عدم اهتمام ٤٥٪ من المواطنين الأتراك الذين صوتوا لحزب العدالة والتنمية بتهم الفساد التي طاولت أردوغان وعائلته وحكومته، وهو ما سيدفع علماء الاجتماع لدراسة هذه الظاهرة التي أثبتت أن المواطن التركي رجح مصالحه المادية الشخصية على عقيدته الدينية والعادات والتقاليد التركية التي ترفض الفساد بكل تفاصيله التي تضمنتها التسجيلات الصوتية المسربة، على الرغم من أن استطلاعات الرأي أثبتت أن ٧٢٪ من المواطنين اعترفوا بوجود الفساد وتورط أردوغان وعائلته فيه. وأثبتت النتائج أيضاً أن أحداث وتظاهرات تقسيم في حزيران الماضي لم تؤثر سلباً في شعبية رئيس الحكومة الذي وصف المتظاهرين بالإرهابيين والمخربين والشيوعيين وأعداء الأمة والدولة التركية.
٥- انتصار أردوغان، أو على الأقل عدم هزيمته التي راهن البعض عليها، رفع من معنويات أنصار وأتباع الحزب الذين كانوا يتخوفون أن يواجه الحزب مشاكل جدية وخطيرة قد تنتهي بتمزقه في حال خسارته في انتخابات أول من أمس. وكان الرهان على احتمالات أن يقدّم ٥٠ من أعضاء البرلمان من الحزب المذكور استقالاتهم بهدف إسقاط الحكومة في حال هزيمة أردوغان.
٦- أثبتت نتائج الانتخابات أيضاً أن الناخب التركي في طبعه العام يميني محافظ وبكل أطياف اليمين الإسلامية والقومية والليبرالية التي تحكم تركيا منذ الانتقال إلى التعددية الحزبية عام ١٩٥٠. ويعترف المثقفون الأتراك بفشل اليسار الوسط، أي العلماني الممثل في حزب الشعب الجمهوري في طرح برامج سياسية واقتصادية واجتماعية تقنع المواطن التركي الذي صوت دائماً لليمين الرأسمالي المدعوم دائماً من الغرب، وخاصة الحليف الأكبر واشنطن. وأثبتت النتائج أن حزب الشعب الجمهوري لم يستخلص الدروس اللازمة من كل التجارب الانتخابية السابقة التي تعامل معها بمنطق الهواة، خلافاً لأردوغان الذي أثبت احترافه المهني سياسياً من خلال فهم عقلية الطبقات المتوسطة والفقيرة من الشعب التركي التي جاء من بين صفوفها وأدرك كل طموحاتها ومطالبها اليومية البسيطة بعيداً عن كل المقولات الكبرى، باستثناء تلك التي استغلها عاطفياً لدغدغة مشاعر المواطنين عندما تحدث عن «تحدياته للقوى الإمبريالية والصهيونية والصليبية باسم الإسلام أو الأمة التركية العظيمة وريثة الإمبراطورية العثمانية».
٧- نتائج الانتخابات ستدفع رئيس الحكومة إلى الاستمرار في نهجه الانتقامي من فتح الله غولن وكل معارضيه في السياسة والاقتصاد والإعلام والشارع الشعبي، وبعد أن سيطر خلال الأشهر الثلاثة الاخيرة بعد انفجار قضايا الفساد على الأجهزة الأمنية والقضائية عبر التعديلات القانونية الأخيرة وإحكام سيطرته على ٧٠٪ من وسائل الإعلام الحكومية والخاصة ونجحت في إقناع المواطن بأن التهم الموجهة إلى أردوغان كاذبة، وهو ما يفسر رضى المواطن حتى على حجب موقعي «تويتر» و«اليوتيوب» أيضاً. ويهدف أردوغان من خلال تهديداته لمنافسيه وأعدائه إلى تعبيد طريقه لضمان الوصول بسهولة إلى حلمه الأكبر في حكم القصر الجمهوري، لكن بصلاحيات دستورية أوسع.
٨- بدأ الحديث مبكراً عن الموقف المحتمل لواشنطن التي يتوقع لها البعض هنا أن تدرس الظاهرة التركية بكل جوانبها السياسية والعقائدية والاجتماعية والجينية حتى تفهم أسرار التجربة الديموقراطية التركية التي سعت إلى تسويقها للعالم العربي قبل ما يسمى «الربيع العربي» وخلاله. وهو ما يفسر قول أردوغان الذي أكد أمس أن انتصار حزبه إنما هو انتصار للإسلاميين في مصر وسوريا وفلسطين والبوسنة وكل مكان يناضل فيه المسلمون من أجل الديموقراطية وضد الظلم والاضطهاد.
٩- العلاقة المحتملة بين واشنطن وأردوغان ستحدد دون شك مستقبل الدور التركي في المنطقة، وخاصة بعد التغييرات الجارية والمحتملة في العلاقة بين واشنطن وكل من الرياض والدوحة والقاهرة وطهران وحليفتها دمشق. وجاءت نتيجة انتخابات ولاية هاتاي أي أنطاكيا لتعكس مدى الرفض الشعبي لسياسات أردوغان الخطيرة في موضوع سوريا حيث صوتت غالبية المواطنين المعارضين لسياسة الحكومة في سوريا هناك لمرشح حزب الشعب الجمهوري، رغم استنفار الحكومة لكل إمكاناتها وإمكانات الدولة لدعم مرشح العدالة والتنمية.
١٠- حزب السلام والديموقراطية ربما كان المنتصر الأكبر في انتخابات أول من أمس؛ لأنه فاز في ١٠ بلديات متجاورة جنوب شرق البلاد، وهي منطقة تحد شمال شرق سوريا وشمال العراق وغرب إيران، وهي المناطق التي يسكنها الأكراد، حيث سبق للحزب المذكور أن تحدث عن مشروع للحكم الذاتي يخططون له في البلديات المذكورة، وهو ما سيكون قابلاً للتحقيق ضمن التقارب والتنسيق والتحالف المحتمل بين الحزب المذكور وأردوغان الذي سيكون بحاجة للأكراد عندما سيخطط لتغيير الدستور قبل انتخابات رئيس الجمهورية الذي سينتخبه الشعب مباشرة، وهو ما سيضمنه أردوغان بتأييد أنصار وأتباع حزب السلام والديموقراطية، وهم نحو ٧٪ في عموم تركيا.




أردوغان: سأدخل عرين الأعداء

هنّأ العديد من رؤساء العالم رئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان على فوز حزب العدالة والتنمية في الانتخابات البلدية. ومن أبرز المهنئين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وكان أردوغان توعد خصومه بأنه «سيدخل عرين» الأعداء الذين اتهموه بالفساد وسرّبوا أسرار الدولة، وتوعّدهم بأنهم «سيدفعون الثمن». وقال حزب الشعب الجمهوري إنه سيطعن في نتائج الانتخابات في أنقرة التي هزمه فيها بفارق ضئيل حزب العدالة والتنمية وفي نتائج مدينة انطاليا الساحلية الجنوبية. وفي السياق، نفى رئيس الحزب كمال قيليشدار أوغلو الأنباء التي جرى تداولها حول استقالته من رئاسة الحزب، مشيراً إلى أن نتائج الانتخابات المحلية «تمثل البداية في مسيرة تعزيز قوة الحزب المتصاعدة، ولو أن النتائج أتت على عكس ما كان منتظراً».
(أ ف ب، رويترز، الأناضول)