إسطنبول ـ الأخبارعندما أسقطت وسائل الدفاع السورية مقاتلة تركية بعد اختراقها المجال الجوي السوري في ٢٢ حزيران ٢٠١٢، أقامت أنقرة الدنيا وأقعدتها ودعت الحلف الأطلسي إلى التدخل وإعلان الحرب على الرئيس بشار الأسد. رفض الحلف هذا الطلب باعتبار أن الطائرة أسقطت داخل الأجواء السورية، كما هو رفض مطالب أخرى من أنقرة في الاتجاه نفسه بحجج ومبررات مختلفة.

كان ذلك في بدايات الأزمة، حيث حاولت أنقرة استغلال كل حدث لتبرير تدخلها المباشر وغير المباشر في سوريا، وهي التي لعبت منذ البداية الدور الرئيسي في مجمل المخططات والمشاريع السياسية والعسكرية ضد دمشق، بدءاً من تشكيل الجيش الحر في أنطاكيا والمجلس الوطني السوري المعارض في إسطنبول، وانتهاءً بتمرير الآلاف من التكفيريين الأجانب الى بلاد الشام عبر حدودها، ومن ثم تقديم كل أنواع الدعم السياسي والعسكري والاستخباري لكل الجماعات المسلحة التي تقاتل هناك. وكان ذلك كافياً بالنسبة إلى هذه الجماعات حتى تسيطر على مجمل المناطق السورية القريبة من الحدود مع تركيا.

أين الحساب الإقليمي والدولي في مخطط أردوغان السوري


وجاء حادث إسقاط المروحية السورية ١٦ أيلول الماضي ليثبت من جديد تورط الطرف التركي في الأزمة السورية، لأن المروحية كانت في مهمة مماثلة لمهمة الطائرة السورية التي أسقطت الأحد الماضي، وهي مراقبة تحركات الجماعات المسلحة قرب الحدود مع تركيا بعدما اقتحمت ريف اللاذقية الجمعة ٢١ آذار الجاري من بوابة كسب الحدودية بحماية من المدفعية والطائرات التركية، وذلك بحسب تصريحات المسؤولين السوريين الذين تهربوا دائماً من التصعيد مع أنقرة، على الرغم من مساعي رجب طيب أردوغان ووزير خارجيته أحمد داوود أوغلو في الاتجاه المعاكس. فقد لمّح هذان الأخيران إلى أن إسقاط الطائرة السورية جاء انتقاماً للطائرة التي أسقطها السوريون في حزيران ٢٠١٢ _ وكان هذا التلميح كافياً لوسائل الإعلام الموالية للحكومة حتى تقوم بشحن المشاعر القومية للمواطن التركي، وخاصة في هذه المرحلة الصعبة بالنسبة إلى أردوغان الذي يواجه تهم الفساد الخطيرة.
وأما الحدث الأغرب في هذه القصة، فهو تصريحات زعيم حزب الشعب الجمهوري كمال قليشدار أوغلو في اليوم نفسه، أي ٢١ الشهر الجاري، عندما توقع لأردوغان أن يقوم بعمل عسكري استفزازي خطير ضد سوريا في محاولة منه لتأجيل أو إلغاء الانتخابات غداً الأحد، وبعد أن توقعت استطلاعات الرأي للعدالة والتنمية أن يخسرها.
وجاء إسقاط الطائرة السورية ليثبت صحة توقعات قليشدار أوغلو والعديد من الأوساط السياسية والإعلامية، وخاصة الموالية للداعية فتح الله غولن، والتي اعتبرت إسقاط الطائرة تكتيكاً مقصوداً من أردوغان لإبعاد أنظار الرأي الإعلامي التركي عن قصص الفساد والتسريبات الصوتية التي تثبت تورطه شخصياً في العديد من الفضائح الخطيرة. ودفع ذلك قليشدار أوغلو إلى مناشدة رئيس الأركان الفريق أول نجدت أوزال حتى لا يضع الجيش في خدمة الحسابات الضيقة لرئيس الحكومة، متهماً هذا الأخير مرة أخرى بأنه «يخطط لمغامرات خطيرة في سوريا». اتهامات لها ما يبررها مع استمرار أردوغان ووزير خارجيته في تهديداتهما بالتدخل لحماية ضريح الشاه سليمان قرب مدينة الرقة، بعدما هددت «داعش» بتدميره وأمهلت أنقرة ٣ أيام لإنزال العلم التركي عن بوابته. وجاءت التسريبات الأخيرة لتثبت مدى خطورة المغامرة التركية التي كان يخطط لها وزير الخارجية داوود أوغلو مع القيادات الاستخبارية والعسكرية وبتعليمات من أردوغان. كانوا يتحدثون في جلسة سرية عن قصف مدبّر بالصواريخ من الأراضي السورية ضد تركيا، ليكون ذلك مبرراً للتدخل العسكري البري والجوي في سوريا بلاد الشام.
والسؤال الأهم في مجمل هذه التطورات والتناقضات وبكل مفاجآتها المحتملة هو أين الحساب الإقليمي والدولي في مخطط أردوغان الخاص بسوريا، وخاصة بعد إحالة الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني وبندر بن سلطان وروبرت فورد على التقاعد وبقي هو وداوود أوغلو بمفردهما في الساحة؟ بل قل المستنقع السوري الذي تحول الى مشروع عقائدي وسياسي وشخصي بالنسبة إليهما، خاصة بعد اتهامات زعيم المعارضة كليجدار أوغلو لهما بدعم الجماعات الارهابية في سوريا، محمّلاً إياهما مسؤولية كل القتل والدمار هناك.
ويتحدث الإعلام التركي عن سيناريوات مختلفة بشأن حسابات أردوغان ومعه باراك أوباما في ما يتعلق بمستقبل الدور التركي في الأزمة السورية، خاصة بعد سقوط محمد مرسي وتصنيف «الإخوان» المسلمين كمنظمة إرهابية من قبل الحليف العقائدي لأردوغان، الملك السعودي عبدالله الذي جاء أوباما إلى الرياض ليتفق وإياه على ترتيب أمور المنطقة من جديد. وهو ما يفسر أيضاً اعتراف الملك الأردني عبدالله بوجود الآلاف من المقاتلين الأجانب «الإرهابيين» في سوريا. وأغضب كل ذلك أردوغان باعتبار أن جذوره إخوانية ويعتبر نفسه حامي حمى «الإخوان» بعد سقوط مرسي وفشل التجربة التونسية والمخطط الغربي في ليبيا.
وتدفع هذه التفاصيل البعض هنا إلى الحديث عن مساومات مستمرة بين أوباما وأردوغان الذي يبدو أنه يريد أن يقول أو يثبت للرئيس الأميركي أنه لا يزال قوياً ويمسك بزمام الأمور لخدمة المشروع الأميركي الخاص بسوريا أو أوكرانيا، وخاصة مع زيارة الأخير للرياض من دون أن يمرّ على أنقرة. وقد يسعى أردوغان إلى تسويق مكانة بلاده ودورها هذه المرة في القوقاز وآسيا الوسطى، حيث الأقليات المسلمة ذات الأصل التركي داخل حدود روسيا الحالية، ويقدر عددها بحوالى ٢٠ مليوناً، بينهم ٢٥٠ ألفاً في جمهورية القرم التي انفصلت عن أوكرانيا وانضمت إلى روسيا. وتعيش جالية كبيرة من التتار في تركيا، حالها حال الجاليات الأخرى كالشيشان والشركس والجورجيين وغيرهم من الأقليات المسلمة الموجودة أيضاً في بلغاريا واليونان ومقدونيا وألبانيا والبوسنة وكوسوفو، وكانت جميعاً ضمن حدود الدولة العثمانية.
ويبدو واضحاً أن أردوغان في وضع صعب وخطير جداً لا يحسد عليه في قضايا الفساد، وهي ليست أقل خطورة من تورطه في الأزمة السورية. ويدرك أردوغان الآن أن نجاح الأسد في الصمود كان السبب الرئيسي الذي دفع الأمور في المنطقة باتجاه إسقاط محمد مرسي والمشروع الإخواني الإقليمي، بكل انعكاسات ذلك على الواقع التركي الداخلي.




غول: سوريا تجسست علينا... وسنعاقبها

مع استمرار ردود الفعل العنيفة على تسريب تفاصيل الجلسة السرية في مكتب وزير الخارجية أحمد داوود أوغلو، اتهمت أنقرة سوريا «بالتجسس على تركيا»، معتبرة ذلك «عملاً خطيراً جداً».
وقال الرئيس عبدالله غول: «إن التنصت على اجتماع يضم كبار الشخصيات الأمنية التركية، لتطاول كبير، وهو بمثابة تجسس ينتهك أمن الدولة»، مؤكداً أنها «لن تمر من دون معاقبة فاعليها». وأضاف: «إن الجميع يدرك مدى حساسية الحدود السورية التركية الممتدة على طول 900 كلم، وهي عرضة للتهديدات في ظل الأزمة السورية القائمة منذ 3 سنوات، وهذا ما يدفعنا إلى أن نكون في حالة تيقظ دائمة»، مضيفاً: «لكن أخيراً، وصلت التهديدات إلى ضريح «سليمان شاه»، وهي البقعة الوحيدة خارج تركيا التابعة للوطن التركي. وبناءً عليه، من واجبنا الدفاع عنها وعن العلم التركي، الذي يرفرف فوقها؛ لأن ذلك مطلب معظم الشعب التركي».
وشدد غول على ضرورة الحذر من الانسياق للاستفزازات الهادفة إلى جر تركيا للحرب، موضحاً أن «التنصت على اجتماع جرى في مبنى وزارة الخارجية ضم أرفع المسؤولين الأمنيين، لبحث الإجراءات الواجب اتخاذها لحماية أمن البلاد، هو تجسس ووقاحة منقطعة النظير، والدولة بجميع أركانها لن تبدي أدنى تسامح تجاه من قاموا بهذا الفعل».
أما داوود أوغلو، الذي تحدث في مدينة قونيا ممثلاً رجب طيب أردوغان الذي لم يشارك في التظاهرة الانتخابية بسبب صوته المبحوح، فوصف ما حصل بأنه «عمل خطير جداً استهدف الأمن القومي والوطني للدولة والأمة التركية».