ما تعاني منه أوكرانيا اليوم ليس وليد الصدفة. فإن أردنا أن نفهم ما تمرّ به هذه الدولة السوفياتية السابقة، يترتب علينا أن نعود بالتاريخ إلى فترة ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. هذه الفترة كانت محورية بالنسبة إلى أوكرانيا، حيث شهدت دخول «الديموقراطية» الأميركية إلى شوارع كييف وأزقتها، وإن بشكل غير رسمي، من طريق المنظمات غير الحكومية التي غالباً ما تتخذ من توعية الشعوب «المضطهدة» أو المهدورة الحق، هدفاً لها.
تلك المنظمات التي بدأ الشعب الأميركي بتمويلها من دون علمه منذ عهد الرئيس الأميركي الراحل رونالد ريغن، الذي طالب بدعم هذه المنظمات لأهداف تجسسية، تدعمها الاستخبارات الأميركية، وهو ما أكدته مساعدة وزير الخارجية الأميركي جون كيري، فيكتوريا نولاند، عندما كشفت في تصريح لها يعود لـ 13 كانون الأول من العام الماضي، قالت فيه: «لقد استثمرنا أكثر من 5 مليارات دولار منذ عام 1991 لمساعدة أوكرانيا على تطوير مفهوم الديموقراطية فيها».
من هنا انطلقت المنظمات الأميركية في عملها، متبعةً خطة موضوعةً من قِبل الحكومة الأميركية، تقضي بالتغلغل داخل المجتمع الأوكراني وتحييده شيئاً فشيئاً عن الفلك الروسي، فعملت المنظمات على استغلال نقطة ضعف موجودة أصلاً في الداخل الأوكراني، وهي «الخصام» بين الشرق والغرب. وتعود أسباب هذا الخلاف إلى التقارب الشديد بين الشرق الأوكراني مع روسيا، بحيث يتحدث معظم سكان هذه المنطقة اللغة الروسية، كذلك فإنهم ينعمون بأرباح مادية كبيرة جرّاء التجارة الناشطة مع الجارة العملاقة؛ فيما يعاني الشق الآخر من أوضاع معيشية أصعب، بالإضافة إلى تكلمه اللغة الأوكرانيّة، ما يُسهم في التباعد الثقافي بين أبناء البلد الواحد.
ركّزت معظم هذه المنظمات عملها «الحقوقي» في الشق الغربي من أوكرانيا، طبعاً من دون تجاهل الشرق، فحرّضت ودعمت و«ثقّفت» الأوكرانيين، حاصدةً أول نجاحاتها عام 2004 في ما يسمى «الثورة البرتقالية» التي نجحت في تسلّم السلطة بعد إطاحة الرئيس الأوكراني حينها ليونيد كوشما عبر انتخابات رئاسية.
والجدير بالذكر هو أن أحد قادة تلك الثورة، وهو فلاديسلاف كاسكيف، الذي يعتبر من إنتاجات إحدى المنظمات غير الحكومية المسماة «pora»، وهي منظمة أوكرانية غير حكومية مدعومة من الغرب، قدّم شكره لهذه المنظمة علناً، معتبراً أن مفاهيم حرية الصحافة والديموقراطية ما كانت لتنتشر في أوكرانيا لولاها. إشارة واضحة أرسلها كاسكيف بقصد أو غير قصد، كشف فيها عمق تغلغل المنظمات غير الحكومية المدعومة من واشنطن في الحياة السياسية للشعب الأوكراني.
بالعودة إلى الأحداث الأخيرة، تبدو واضحة نية الولايات المتحدة في اعتماد سياسة التدخل المباشر إلى جانب العمل غير المعلن للمنظمات المدعومة منها. فالتصريحات الأميركية الداعمة لما يحدث من أعمال عنف في أوكرانيا لم تتوقف منذ بدء الأزمة في تشرين الثاني المنصرم. لكن بالنظر إلى بعض قادة المعارضة الأوكرانية، ليس من الصعب أن نجد تناقضاً غريباً، حد النفاق، في مواقف الولايات المتحدة. فزعيم حزب «سفوبودا» اليميني المعارض، أوليه تيانيبوك، يعتبر معروفاً بمواقفه المعادية للسامية، بل يصفه بعض الأطراف بالنازي، وهو الذي قال إن «أوكرانيا تحكمها مافيا روسية يهودية». كذلك إن الشعارات التي رفعت في التظاهرات الأخيرة، ينتمي أصحابها إلى أحزاب متعاطفة مع النازية، وقد شارك 15000 من الموالين لهذه الأحزاب الشهر الماضي في مسيرة إحياء لذكرى الزعيم الأوكراني الذي شارك إلى جانب ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية، ستيبان بانديرا. غير أن هذه العوامل لم تمنع السيناتور الأميركي جون ماكين من اعتلاء المنصة نفسها مع الممثل الشرعي لتلك المجموعات المتعاطفة مع النازية، معلناً تضامنه معهم ودعمهم حتى النهاية، دائساً بذلك كل مواقفه ومواقف الإدارة الأميركية الرنانة الداعية إلى الديموقراطية.
ليس الأمر بحاجة إلى نظرة تحليلية خاصة لاكتشاف تأثير المنظمات غير الحكومية المدعومة من واشنطن على مسار الأحداث في أوكرانيا، كذلك إن النفاق الأميركي وقولبة المواقف وإخفاء الحقائق، ليست خافية على أحد، لكن الأهم هو أن كل هذا الدعم للأحزاب اليمينية المتطرفة، وكل هذا التحريض والتجييش لفئة ضد أخرى، يجري تحت مظلة الديموقراطية المزعومة للولايات المتحدة ومنظماتها الحقوقية.