يهوى أهل العلم وتحديداً الفيزياء ودهاليسها النظرية الإشارة دوماً إلى ذلك النفق الشهير الممتد أكثر من عشرين كيلومتراً دائرية في جنيف، للكلام عن «أهم تجربة علمية» على مستوى العالم: محاولة إعادة خلق اللحظات الأولى لولادة الكون – أي إنتاج ثقب أسود – عبر دفع الجزيئات إلى الارتطام ببعضها بسرعات هائلة.
أوصلت هذه التجربة إلى نتائج ملموسة العام الماضي: تأكيد وجود جزيئية هيغز بعدما اكتسبت صيتاً نظرياً فترة طويلة بأنها «جزيئية الله»، على اعتبار أنها المكوّن الأساسي الذي يمنح باقي الجزيئات ثقلها.
بالتزامن مع هذا الاكتشاف العلمي، الذي وُصف بأنه خطوة هائلة للعلم، كان العالم يشهد تجربة اجتماعية، فوق الأرض طبعاً، تتعلّق باستهلاك منتج طبيعي يهوى مجرّبوه وصفه بأنه «يُقرّب من الله»، ولكن لا تزال الحكومات من الشرق إلى الغرب تعاني في مقاربتها له على مستوى الإنتاج، المتاجرة والاستهلاك.
إنه القنّب الهندي طبعاً – أو حشيشة الكيف بالتعبير الدارج. والتجربة المشوّقة التي دخل فيها هي في الاوروغواي. هناك شرّعت ونظّمت إدارة الرئيس خوسيه موخيكا، إنتاج وبيع واستهلاك هذه النبتة الغنية.
لهذا الرئيس أهواء يسارية وشعبية لا تعجب كثيرين في عالم ليبرالي يُقدّس حقوق الشركات وضعف الحكومات، لكن ذلك لم يمنع أحد ألمع الأصوات الليبرالية، تحديداً محررو مجلة «إكونوميست» البريطانية، من تصنيف البلد اللاتيني أنه «بلد عام 2013»؛ تشريع الحشيشة أدى دوراً إضافة إلى تشريع زواج المثليين.
إنه زمن تشريع الحشيشة على مستوى العالم، لا جدال في ذلك. بدءاً من لبنان الذي سجّل في العام الماضي موسماً غنياً، أعفت الدولة عنه تحت ضغط انتفاضة المزارعين وصولاً إلى الولايات المتّحدة التي يقودها رئيس قال صراحة: «لا أعتقد أنها (الحشيشة) أكثر خطورة من الكحول».
ولكن في المقابل، تماماً كما يُمكن لأجهزة الأمن في لبنان أن تعتقل شاباً بحوزته بعض الغرامات للاستهلاك الشخصي (فيما يُغضّ الطرف عن كثير من المجرمين من التجار الكبار وصولاً إلى السفاحين) تُجرّم السلطات الأميركية من يُقبض عليه بهذه التهمة؛ الفارق هو أنّ الرأي العام في الولايات المتحدة، في ظلّ إدارة منفتحة، يرفع صوته في وجه النظم الحالية.
وتمنح الإدارة الفدرالية الولايات المختلفة الحق في القرار في شأن تشريع الحشيشة من عدمه. ولايتان عمدتا إلى التشريع هما واشنطن وكولورادو.
أميركياً يُعوّل على التجربتين في هاتين الولايتين – كما يُعوّل عالمياً على تجربة الأوروغواي – لتحديد الممارسات الأفضل مستقبلياً على هذا الصعيد.
ويُلاحظ في الولايات المتحدة أنّ الموقف من الحشيشة لم يتغيّر جذرياً خلال العقود الثلاث الماضية، إذ أن نسبة الذين يفيدون بأنهم جربوها فعلاً يبقى عند 30%. بيد أن التحوّل يتمثّل في انتفاض المجتمع الأميركي ضدّ القوانين الظالمة المعتمدة؛ المجتمع يطالب بإصلاحات على هذا الصعيد.
والأرقام تختصر الكثير. ففي الخريف الماضي وللمرّة الأولى تاريخياً أعربت غالبية الأميركيين عن رغبتها في تشريع الحشيش. بحسب استطلاع لشركة «غالوب» بلغت نسبة المؤيدين 58% من المستطلعة آرائهم. هذه النسبة تساوي خمسةَ أضعاف تقريباً نسبة التأييد التي رصدتها الشركة نفسها عام 1969، مع العلم أنّ الستينيات مثّلت عقداً تاريخياً للمطالبة بتطبيق السياسات التقدمية، وشهدت نيويورك حراكاً لافتاً على هذا الصعيد، يُمكن استعادته بسهولة لدى النظر إلى صورة الشاعر الشهير آلن غينسبرغ حاملاً لافتة تقول: «الحشيشة ممتعة» (Pot is fun).
حاول ناشطو ذلك العقد استعادة مرحلة ما قبل الحرب العالمية الثانية. حيث أضحى الحشيش ومشتقاته – أي المادة شبه الصمغية التي تُعدّ خلاصة زهرة النبتة الأنثى من القنب الهندي– الموضة الاكثر شعبية في أوساط الفنانين والموسيقيين.
تاريخياً وبنتيجة الحملات المناهضة للقنب الهندي – التي قادت الكنسية أبرزها – أُصدر قانون الضرائب الخاصة باستخدام الماريجوانا عام 1937، بهدف جعل استهلاكها الترفيهي مكلفاً لدرجة عالية. هكذا مع حلول الأربعينيات تراجع الاستهلاك على نحو حاد وفي العقد اللاحق تقهقرت زراعة كانت مزدهرة بسبب الدواعي الطبيية، لتعود وتتحوّل العشبة إلى أحد شعارات الانتفاض وثورة الشباب في الستينيات والسبعينيات.
ولكن استهلاك مختلف مكونات نبتة القنب الهندي لا يرتبط فقط بالشعور البيولوجي الجميل الذي تولّده عبر تحفيز الهورمونات الإيجابية. بل له أبعاد مهمّة في مجالات أخرى أيضاً.
وليست الحشيشة المادّة الطبيعية الوحيدة التي تلجأ إليها المجتمعات للوصول إلى حالات معينة من الصفاء الذهني. فحسبما يذكر راندي ميلينغ في كتابه «ماريجوانا» (2003) هناك ممارسات دينية كثيرة حول العالم ترتبط في كثير من الأحيان بفطريات الأمانيتا لتحقيق شعور ذهني معيّن.
اليوم ومع تسليط الضوء على الولايات المتّحدة لا بدّ من ذكر أن زراعة القنب الهندي هناك هي من عمر هذا البلد تقريباً. أول المحاصيل أينعت في بدايات القرن السابع عشر بأمر مباشر من العرش البريطاني؛ لكن استخدام تلك النباتات لم يكن بهدف الكيف، بل استخدام مختلف مكونات النبتة لصنع الحبال، القماش المتين والورق (كلمة Canvas الإنكليزية التي تعني القماش لها جذور لغوية في كلمة Cannabis).
وحتّى الأب المؤسس، جورج واشنطن، زرع هذه النبتة الثمينة للاستفادة من مكوناتها في المجال الطبي وأيضاً لفبركة القماش؛ وبحسب الأدلة المستقاة من مذكراته ليست هناك أي إشارة إلى استخدام العشبة لتحفيز المزاج الجيد.
ومع حلول منتصف القرن التاسع عشر كان تأثير الحشيشة، التي يعود أصلها إلى آسيا الوسطى على الأرجح، قد انتشر في جميع القارات تقريباً، وأضحى الأطباء يعون تأثيرها اللافت في التخدير ووقف الآلام.
ويذهب البعض في المرافعة لمصلحة الحشيشة لدرجة الترويج لها بديلاً عن زراعة القطن لتأمين المواد اللازمة لصناعة القماش. وعلى اعتبار أن زراعة القطن تتطلب وحدها أكثر من 50% من الأدوية الزراعية المستخدمة في العالم. وبالتالي يكون هناك خفض للآثار السلبية الكثيرة التي يُحدثها استخدام تلك الأدوية.
كذلك يُمكن الاستفادة من محصول القنب الهندي لاستخدامه في الصناعات الورقية بوتيرة محصول كل 100 يوم، فيما تتطلب زراعة الأشجار سنوات طويلة.
انطلاقاً من هذا التاريخ الغني واستناداً إلى الفوائد الغنية للقنب الهندي، اليوم النقاش هو عند نقطة تحوّل فعلي في الولايات المتحدة والعالم. بحسب إدارة مكافحة المخدرات الأميركية فإنّ «المضي قدماً على طريق تشريع الماريجوانا هو خطوة متهورة وغير مسؤولة». في المقابل يرى رئيس البلاد – بحسب ما عبّر في مقابلته الطويلة مع مجلة «نيويوركر» أخيراً – «من المهمّ المضي قدماً» صوب التشريع في كافة الولايات، «ضروري ألا يجد المجتمع نفسه في وضع يُعاقب فيه نسبة ضئيلة من شريحة واسعة خالفت القانون في أحد الأوقات».
باراك أوباما، وفقاً لمنطقه، يُريد حماية المواطن العادي الذي يهوى إشعال سيجارة بين الفينة والأخرى، تماماً كما يحمي المزارعون اللبنانيون «رزقهم»، تماماً كما يحمي خوسيه موخيكا مجتمعه من سطوة العصابات... تماماً كما تُنتج النبتة الشهيرة مادتها الصمغية للاحتماء من الحرارة المرتفعة.




مرتبة مميزة في المجتمعات البشرية

خلال آلاف السنين، تمتعت هذه النبتة بمرتبة مميزة في المجتمعات البشرية المختلفة. لقد رُصدت بقايا مايجوانا وكوكايين في مومياوات (جمع مومياء) فرعونية. ويُشير الباحثون إلى أنّ أدلة تفيد بانّه زُرعت الماريجوانا – وتفسير الكلمة حرفياً هو «ماريا وجوان» أو «وقة ماريا» – قبل 12 ألف عام. وقبل خمسة آلاف عام بدأ الصينيون باستخدامها لدواع طبية؛ وأصل العشبة على الأرجح كان آسيا الوسطى. وخلال العقود القليلة الماضية، توصلت الأبحاث إلى أهمية القنب الهندي في إراحة أعصاب العين التي تتأثر وربما تتضرر بفعل أمراض معينة، إضافة إلى دورها في معالجة الغثيان لدى المصابين بالسرطان الذين يتلقون علاجاً كيميائياً. ونظراً لدورها في تحفيز الشهيرة، توصف الحشيشة للمصابين بالسرطان أو بداء فقدان المناعة المكتسبة (آيدز) لضمان الحفاظ على أوزانهم.