عندما أعدّت الاستخبارات الأميركية تقريرها في عام ٢٠٠٨، لم يكن إدوارد سنودن قد فعل فعلته بعد وسرّب وثائق «وكالة الاستخبارات الوطنية» السرية، كاشفاً عن حجم التجسس المهول الذي تعتمده الوكالة وعن خرقها للقوانين الأميركية والدولية بتجسسها على الأميركيين وعلى زعماء الدول ومواطنيهم ... لكن في عام ٢٠٠٨، كانت «الحرب على الإرهاب» ما زالت في أوجها و«المجموعات الإرهابية» وزعيم «القاعدة» أسامة بن لادن ما زالوا يؤرقون الاستخبارات الأميركية.
التقرير المنشور حديثاً والمؤلف من حوالى ١٤٠ صفحة يتناول الجوانب الأمنية والاجتماعية والاقتصادية وحتى النفسية لعيّنات من مستخدمي الإنترنت في الولايات المتحدة وحول العالم، وخصوصاً من الذين يشاركون في الألعاب الافتراضية الموجودة على الإنترنت. تقرير «الاستخبارات الوطنية» لا يذكر كيف تمكّن معدّوه من الحصول على معظم الداتا التي بنوا على أساسها تحليلاتهم وخلاصاتهم، بل يعلن أن «كل ما جاء في التقرير مستقى من مصادر غير سريّة». وبينما يؤكد معدّو التقرير أن مضمونه «لا يعبّر عن وجهة نظر أجهزة الاستخبارات الوطنية»، إلا أنه يعطي فكرة واضحة عن كيف تقرأ الاستخبارات الداتا الإلكترونية وكيف يحللون التطور التكنولوجي على صعيد العمل الاستخباري. يذكر أن التقرير يتضمن بعض الفقرات التي حجبت عمداً عن القرّاء، إضافة الى عدد كبير من الصفحات التي لا تظهر نصوصها بشكل واضح!
اللافت في التقرير أنه لم يكتف بعرض خلاصات ما جمعه من داتا إلكترونية، بل حلّل بعض الجوانب النفسية والاجتماعية لفئات معيّنة من مستخدمي الإنترنت وبحث في مدى تطابق «الهويات الافتراضية» التي يعتمدها البعض على الإنترنت مع الهويات الحقيقية لهم. من هنا، جاء العنوان الأساسي للتقرير وهو: «امتداد المجال الافتراضي الثلاثي الأبعاد، حيث تتحوّل العوالم الافتراضية الى واقع».
ينطلق التقرير من رصد بعض الألعاب الإلكترونية مثلSecond Life وغيرها ليحلل تصرفات وهويات الأفراد الذين يشاركون فيها، ثم ينتقل الى رصد داتا أوسع عن مستخدمي الإنترنت مثل المجموعات الدينية والعاملين في الدعارة على الإنترنت والمجموعات الاقتصادية والذين يتداولون بعملة الإنترنت وغيرهم ... ويخصص التقرير جزءاً من فقراته للاستخبارات الإلكترونية على شبكة الإنترنت وما سمّاه «مشكلة تطبيق القوانين وضمان الأمن في العوالم الافتراضية».
طبعاً، خصص جزء كبير من التقرير للصين وكوريا الجنوبية كونهما المنافستين الأساسيتين في مجال ألعاب الإنترنت وكل ما يتعلق بـ«بزنس» العوالم الافتراضية في العالم. وإضافة الى ألعاب الفيديو، لم تغب «مواقع التواصل الاجتماعي» عن لائحة «الأهداف» التي رصدتها الأجهزة الاستخبارية.
معدّو التقرير رأوا بداية أن «ألعاب الفيديو هي الوسيلة الجديدة لكسب عقول وقلوب الجيل الجديد، إضافة الى أموال المعلنين»، كما أشاروا الى أهمية الابتكارات الجديدة في عالم «التواصل الاجتماعي» مثل «فايسبوك» و«يوتيوب» و«ويكيبيديا» كونها تشكّل «مساحة مفتوحة لتبادل المعلومات والآراء».


بن لادن في النظارات

في فقرة خاصة بعنوان: «الاختراعات التكنولوجية خلال السنوات المقبلة»، يتنبّأ التقرير بـ:
ــــــ «موت لوح المفاتيح» وتضمين المفاتيح داخل الآلة أو على الشاشة أو حتى الاستغناء عنه كلياً
ــ تطوّر تقنية الاستشعار عن بعد الخاصة بالكومبيوتر وتقنية الـ Touch المتعدد الوظائف، كما في بعض «الهواتف الذكية»
ــــــ وأخيراً، توقّع التقرير الاستغناء عن كل الأقراص الصلبة المخصصة لنقل المعلومات (سي دي ودي في دي)، على أن يحلّ محلّها نقل الداتا عبر الإنترنت.
ومن الاختراعات الجديدة التي تؤرق معدّي التقرير النظارات الإلكترونية أو iglasses. وتخيّل المعدّون سيناريو يضع خلاله الجهاديون أو مؤيدوهم النظارات الإلكترونية ويشاهدون «الصورة الرمزية» avatar لأسامة بن لادن معروضة أمامهم ويستمعون الى عظاته وخطاباته.
ومن بين ما «يبشّر» به التقرير ولادة ما يسمّى «الاستخبارات الزائفة» أو «المصطنعة» وهي مجموعة القواعد والأحكام التي تقود عالم ألعاب الفيديو والعوالم الافتراضية وهي أفعال مبرمجة لا يتحكم بها أي إنسان.


هوية افتراضية/ واقعية

التقرير يركّز في جزء كبير منه على هوية مستخدمي الإنترنت أو المشاركين في ألعابه. وهنا يقول المعدّون إن «العبارات الشخصية التي يستخدمها الفرد على مواقع الإنترنت وأنواع التسلية التي يمارسها والأفكار التي يطرحها ونشاطاته في أي مجال أو بزنس تترك آثاراً وإشارات حول شخصيته». ويتابع التقرير «إن جمع كل تلك الآثار يشكّل فسيفساء واحدة لشخصية افتراضية موجودة». لكن، حسب التقرير، «كل شخصية افتراضية تتأثر بالمحيط الواقعي الذي تخرج منه»، وهناك طرق كثيرة تعبر من خلالها التصرفات الافتراضية الى الحياة الواقعية. وهنا يعطي التقرير مثلاً فيقول معدّوه: تخيّلوا لو أن بعض المشاركين في لعبة Second Life الافتراضية تعاملوا بشكل غير لائق مع مجسم افتراضي للكعبة كان قد صمّمه مشاركون آخرون مسلمون في نفس اللعبة. إن ذلك سيؤدي، حسب التقرير، الى إغضاب المسلمين حول العالم ودفعهم إلى القيام بأعمال عنفية أو التشجيع على انخراط المزيد من الجهاديين في المجموعات الجهادية حول العالم. وحول «الجهاديين» و«المتطرفين» و«الإرهابيين» يحذّر التقرير مثلاً من أن يتمكّن أحدهم من اختراع شخصية افتراضية لزعيم «القاعدة» بن لادن تقوم بنشر الدعوات الى الجهاد عبر الإنترنت ومخاطبة المتطرفين، من دون أن يستطيع أحد توقيفها.
وفي إطار دراسة تحرّك المجموعات على الإنترنت وتحليل تصرفاتها، يعدد التقرير المجموعات الدينية ويسمّي بعض تلك المجموعات المتطرفة المنتشرة في الولايات المتحدة، كما يذكر نوعاً آخر وهي الجماعات التي تقوم بتعزيز وجهة نظر دينية ـــ سياسية ما، كما الحال في لعبة Special Force 2 التي تعيد خلق عدوان تموز ٢٠٠٦ الإسرائيلي على لبنان، لكن من خلال منظار حزب الله الأيديولوجي والسياسي، كما يذكر التقرير.


خلاصات

وفي أبرز خلاصاته، يذكر تقرير الاستخبارات الأميركية أن الدولة التي ستسيطر على الجيل القادم من الإنترنت هي تلك التي ستعتمد بروتوكولات وقوانين وبنى تحتية مخصصة للعوالم الافتراضية. وهنا يذكّر التقرير بأن الولايات المتحدة التي سيطرت في ما مضى على الجيل الأول من الشبكة الافتراضية لم تعد كذلك، وخصوصاً في مجال تكنولوجيا الإنترنت.
الخلاصة الثانية التي عرضها التقرير هي أن الهويات الافتراضية التي يعتمدها مستخدمو الإنترنت ستتطابق أكثر فأكثر مع الهويات الحقيقية لهؤلاء، أي أن تأثير العوالم الافتراضية سيستمر حتى بعد إطفاء الشاشة فينتقل الى الحياة الواقعية.
أما بالنسبة إلى «الأعداء»، كما يصفهم التقرير، فهم سيزيدون من استخدام العوالم الافتراضية للحشد والتوظيف وبثّ البروباغندا والتدريب وجمع المعلومات.
معدّو التقرير يقترحون في خلاصاتهم وبطريقة صريحة أن تعتمد الدول على قوانين مشددة لـ«الحفاظ على أمن مواطني العوالم الافتراضية وضبطها تماماً، كما في العالم الواقعي». «وهذا ما سيطلبه مستخدمو العوالم الافتراضية أنفسهم في المستقبل» يخلص التقرير. وهنا يتحدّث المعدّون عن التحدّي الذي تواجهه الولايات المتحدة باعتماد قوانين لا يحدّها إطار جغرافي، كما في العالم الواقعي. ويضيف إن «القوانين الفدرالية المعمول بها حالياً لا توفر الأدوات الكافية من أجل التعامل مع الجريمة ذات الطابع الكوني»، أي الجريمة في العالم الافتراضي.
أما في ما يخصّ مجال الاقتصاد والأعمال، فيدعو التقرير الولايات المتحدة الى اعتماد نموذج كوريا الجنوبية الذي يقوم على بنى تحتية مدعومة من قبل الحكومة لإطلاق «صناعة التسويق الحرّ وفق الأسس والقيم الديموقراطية». التقرير لا يغفل الإشارة الى أهمية وسائل التواصل (نصّ، صوت، صورة، حركة) في تكوين العالم الافتراضي. ويقول إن الدولة التي ستطور التكنولوجيا المتعلقة بتلك الوسائل سيكون لها مكانتها بين الدول التي ستسيطر على عالم الإنترنت.
إذاً، كيف سيكون مستقبل العالم الواقعي ربطاً بالافتراضي؟ وما سيكون دور السلطات الحكومية والاستخبارية فيه، وهل هي قادرة فعلاً على ضبطه؟ التقرير لا يقدم إجابات واضحة، لكن كل مقترحاته تصبّ في خانة الإمساك جيداً بمكونات العالم الافتراضي وتحركاته لكي لا يتحوّل الى غابة يصعب ضبطها، وبالتالي لكي لا يصبح العالم الواقعي كذلك. وبهذا، يكون تقرير الاستخبارات الأميركي قد دعا الى اعتماد الأسلوب الذي تنتقده الولايات المتحدة نفسها دائماً، تحت راية «الحفاظ على الحريات الفردية».

للاطلاع على تقرير الاستخبارات الوطنية الأميركية أنقر هنا

يمكنكم متابعة صباح أيوب عبر تويتر | Sabahayoub@




«محور شرّ» ألعاب الفيديو

يتجاهل التقرير كليّاً كمية الألعاب الإلكترونية المصنّعة في الولايات المتحدة والتي تشجع على العنف والقتل. وقد أثبتت معظم الدراسات النفسية الأخيرة مدى تأثر الجنود الأميركيين بتلك الألعاب وتأقلمهم مع فكرة العنف ومشاهده، وصولاً الى ممارسته حتى على المدنيين في ميادين القتال. ويكتفي التقرير بتعداد أسماء بعض الألعاب الإلكترونية التي يصنّفها «ذات أهداف أيديولوجية»، وبالتالي هدفاً أكيداً لرصدها استخبارياً، ومعظمها منسوبة إلى حزب الله وسوريا وإيران
Under Ash (Syria٫ 2001) ـــــــــ Ethnic Cleansing (USA٫ 2002)
America's Army (USA٫ 2002) ـــــــــ Special Force 1٫ 2 (Hizballah٫ 2003٫ 2007)
Under Siege (Syria٫ 2005) ـــــــــ Night of Bush capturing (2006)
Special Operation 85: Hostage rescue (Iran٫ 2007)