يبدأ ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، زيارته للولايات المتحدة في التاسع عشر من الشهر الجاري، بعد مصر – المحطة الأولى – ولندن وجهته الثانية التي وصل إليها. عام يفصل بين زيارته الأولى للبيت الأبيض والثانية المرتقبة، لكن هذه الزيارة تكتسب طابعاً مختلفاً، لكون كل من الرئيس دونالد ترامب وابن سلمان كانا في آذار 2017 في مرحلة تعرف أحدهما على الآخر.
زيارة ابن سلمان (ولي ولي العهد حينها) كانت تمهيداً للزيارة التي قام بها ترامب للرياض في أيار الماضي، حيث دشّن الرجلان اتفاقاً شاملاً في المجالات الاقتصادية والسياسية كلّف الرياض قرابة 470 مليار دولار. وفق مصادر مطلعة، علمت «الأخبار» أن ابن سلمان سيعلن مع ترامب من البيت الأبيض ما يمكن عدّه الجزء الملياري الثاني من صفقات أيار الماضي، حيث من المقرّر أن يعرّج في زيارته المرتقبة على مدينة هيوستن الأميركية، لتدشين مشاريع «شركة خدمات أرامكو – الفرع الأميركي». هذه الاندفاعة السعودية المستمرة باتجاه ترامب يستشعر البريطانيون خطورتها على طموحاتهم – وهم الخاسرون اقتصادياً مع رحيلهم عن الاتحاد الأوروبي – بالحصول على حصة من مشاريع ابن سلمان، وهذا ما دفعهم إلى بذل جهود استثنائية.

البريطاني مستجدياً

في الأول من الشهر الجاري، نشرت صحيفة الملك السعودي اللندنية (الشرق الأوسط) مقالاً لوزير الخارجية البريطاني بوريس جونسون، الذي اختار له عنواناً لا يمكن التفريق بينه وبين عناوين مقالات كتّاب الصحف السعودية المحلية. رأى جونسون في مقاله أن «مستقبل السعودية والمنطقة والعالم الإسلامي يعتمد على نجاح محمد بن سلمان»، وتقمّص دور موظفي جماعات الضغط التي يوظفها ابن سلمان في واشنطن ولندن عندما روّج لـ«الإصلاحات» التي أطلقها الأمير الشاب، كالسماح للمرأة بقيادة السيارة وتخفيف قيود الفصل بين الجنسين. مقال الوزير البريطاني التزلفي يصبح مفهوماً إذا ما أخذنا بالاعتبار إصرار حكومة تيريزا ماي على الاستمرار في تصدير السلاح البريطاني للسعوديين وجني مليارات الجنيهات، لكن هناك ما هو أكبر من مجرد صفقات سلاح بمليارات لا تتجاوز العشرة. توالت في الأشهر الماضية زيارات أعضاء حكومة ماي للسعودية، ففي 10 كانون الثاني الماضي حطّ في الرياض وزير الخزانة فيليب هاموند، يرافقه رئيس مجموعة سوق لندن للأوراق المالية دونالد برايدن، وكين كوستا الذي عينته ماي العام الماضي ممثلاً خاصاً لحكومتها حول «رؤية 2030» السعودية. في 29 تشرين الثاني الماضي، زارت رئيسة الوزراء الرياض والتقت بالملك وولي عهده. وفقاً للبيان الرسمي البريطاني، ناقشت - إضافة إلى المواضيع السياسية – رؤية 2030 السعودية، وامتدح بيانها «الإجراءات الإصلاحية القائمة في المملكة، الضرورية لنجاح السعودية واستقرارها على المدى الطويل». في الرابع من نيسان الماضي، كانت ماي أيضاً في السعودية برفقة رئيس مجموعة لندن للأوراق المالية حينها خافيير روليت الذي حضر اجتماعها مع سلمان وولي عهده ووزير الطاقة خالد الفالح، ثم في اليوم التالي التقى روليت بصفته عضواً في الوفد الرسمي البريطاني مع مسؤول صندوق الاستثمارات العامة السعودية. لاحقاً في منتصف تموز الماضي انتشر في الإعلام البريطاني خبر تعديل «هيئة الرقابة المالية» البريطانية قوانين سوق لندن للأوراق المالية، بحيث خفّفت القيود والشروط المفروضة على إدراج الشركات التابعة للحكومات الأجنبية في بورصة لندن. لاحقاً في تشرين الأول تبيّن أن مسؤولي «هيئة الرقابة المالية» البريطانية اجتمعوا بمسؤولي «أرامكو» قبل اتخاذ قرار تعديل قوانين الاكتتاب في بورصة لندن، الأمر الذي عرّض الهيئة للانتقادات اللاذعة لأنها «دمّرت سمعة لندن كحامية للأصول الأجنبية»، والأهم أن هذه الانتقادات طاولت ماي شخصياً، لكونها تصرّفت كسمسار خاص لبورصة لندن، وهذا مخالف لصلاحيات رأس السلطة التنفيذية في بريطانيا. ماي الطامحة إلى إقناع بن سلمان باكتتاب أسهم «أرامكو» في بورصتها، ثم استثمار عائدات الاكتتاب في بريطانيا لتعويض خسائر اقتصادها بسبب الـ«بريكست»، اختتمت مسلسل التزلّف لابن سلمان في تشرين الثاني الماضي عبر إعلان إقراض أرامكو السعودية مبلغ 2 مليار جنيه استرليني تحت مسمى «ضمانة».

ترامب مهّد الطريق لفساد البترودولار

على الضفة الأخرى من الأطلسي، يبدو الأميركيون أكثر ارتياحاً من البريطانيين في سباق الفوز بجائزة اكتتاب «أرامكو». في 4 تشرين الثاني الماضي، يوم إطاحة الأمراء ورجال الأعمال السعوديين واحتجاز رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري في الرياض، غرّد ترامب على صفحته في «تويتر» بما يأتي: «سأقدّر كثيراً إقدام المملكة العربية السعودية على اكتتاب أسهم شركة أرامكو في بورصة نيويورك، هذا مهمّ للولايات المتحدة». قبل هذه التغريدة بيومين، أقدم ترامب على الانسحاب من «مبادرة الشفافية في مجال الصناعات الاستخراجية». 52 دولة تنضوي في إطار المبادرة التي انطلقت عام 2003 بهدف «تعزيز الإدارة المفتوحة الخاضعة للمساءلة في قطاعات النفط والغاز والموارد المعدنية». وبموجب الاتفاق، كانت الولايات المتحدة مجبرة على الكشف عن جميع الإيرادات التي تتلقاها من شركات النفط والغاز والتعدين، وتلزم هذه الشركات التصريح علناً ​​عن المدفوعات التي تقدمها إلى الولايات المتحدة والحكومات الأخرى. وكان ترامب – مباشرة بعد توليه منصبه – بالشراكة مع الحزب الجمهوري، قد سهّل عمليات غسل أموال البترودولار، عندما ألغى قانون «كاردن – لوغار» الذي يهدف إلى الحد من الفساد في قطاع موارد الطاقة. القانون أُسقط في شباط 2017، وكان يجبر الشركات الأميركية العاملة في قطاعات صناعة البترول والغاز والتعدين على الكشف عن المدفوعات التى تقدمها للحكومات الأجنبية، مع الأخذ بالاعتبار أن لوبي الشركات النفطية الأميركية كان يشتكي من «القيود» التي ألزمت الشركات بإصدار بيانات تعزيز الشفافية. بانسحابه من المبادرة العالمية وإبطاله القانون التشريعي، يكون ترامب والمنتفعون معه قد هيّأوا الأرضية المناسبة لإنجاز صفقات تجارية مربحة مع السعوديين في بورصة نيويورك.

زيارات سريّة على حساب «أرامكو»

بالتوازي مع الأرضية التي كان ترامب يهيّئها لمحمد بن سلمان لكي يختار بورصة نيويورك لاكتتاب أسهم «أرامكو» فيها، كان ولي العهد السعودي - الذي يشغل منصب الرئيس الأعلى لمجلس إدارة أرامكو - قد أوعز إلى الفرع الأميركي للشركة ببدء التحرك التحضيري لإنجاز التعاقدات اللازمة مع المصارف وشركات التجزئة الأميركية تحضيراً للاكتتاب.

غرّد ترامب سابقاً: سأقدّر كثيراً إقدام السعودية على اكتتاب أسهم أرامكو في بورصة نيويورك

بتاريخ 14 تشرين الثاني عام 2016 سجّل المحامي بوبي هورتون (المستشار القانوني) الفرع الأميركي لشركة أرامكو السعودية المسمى «شركة خدمات أرامكو» كجماعة ضغط في سجلات وزارة العدل الأميركية، وصرّح بأن الشركة يرأسها السعودي باسل أبو الحمايل من دون الإفصاح عن الميزانية التي تتقاضاها الشركة من مقرّ أرامكو الأم في الظهران في السعودية. بحسب آخر كشف متوافر بنشاطات الشركة الصادر في 1 آب 2017 (الوثيقة)، تكفّلت «شركة خدمات أرامكو» بدفع تكاليف زيارات متتالية لوزير الدولة، عضو مجلس الوزراء السعودي مساعد العيبان إلى كل من نيويورك وواشنطن ابتداء من رأس سنة 2017. لم يُعلَن عن زيارات الوزير السعودي في وسائل الإعلام المحلية أو الأميركية، وقد زار بداية مدينة نيويورك من 31 كانون الأول 2016 وحتى 10 كانون الثاني 2017، ثم زار واشنطن من 31 كانون الثاني حتى 14 شباط 2017، وعاد إلى واشنطن بتاريخ 7 آذار ومكث فيها حتى موعد وصول ابن سلمان في زيارته الأولى العام الماضي بتاريخ 14 آذار 2017، ثم تردد إلى واشنطن أيضاً في الفترة بين 30 نيسان و30 أيار 2017. قد يكون سبب زيارات مساعد العيبان السرية مرتبط بالتحضير لزيارة كل من ابن سلمان الى واشنطن في آذار 2017 وزيارة ترامب إلى الرياض في أيار من العام نفسه، لكن لماذا دشّن العيبان أولى رحلاته السرية إلى الولايات المتحدة بزيارة نيويورك؟ ولماذا حلّ على نفقة «شركة خدمات أرامكو»؟ لعل التفسير الأنسب لهذه الزيارات مرتبط بتفاوض ما يقوم به الوزير السعودي لإزالة بعض التخوفات السعودية، فقد نقلت صحفية «وول ستريت جورنال» قبل شهرين معلومات عن انقسام في الرأي داخل الحكومة السعودية، فوزير الطاقة خالد الفالح وآخرون يفضّلون أن يكون الاكتتاب في لندن بسبب مخاطر قوانين وتشريعات أميركية كـ«قانون جاستا» مثلاً. مصادر صحفية أميركية تحدثت أخيراً عن رغبة ابن سلمان الشخصية في اختيار نيويورك، لكونها «ستفتح آفاقاً واسعة للوصول إلى مستثمرين كبار، وستقوّي العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية الأميركية - السعودية، وتعزّز العلاقة الشخصية التي نشأت بينه وبين ترامب».




مساعد العيبان

يُعَدّ مساعد العيبان أقدم وزير حالي في مجلس الوزراء السعودي، فهو يشغل منصبه منذ عام 1996. هو نجل مؤسس الاستخبارات العامة محمد العيبان، وخرّيج جامعة هارفرد الأميركية، وعمل سابقاً مستشاراً متفرّغاً في وزارة البترول والثروة المعدنية. لا يكاد يمرّ اجتماع للملك السعودي مع الوفود الأميركية الرسمية إلا ويكون العيبان إلى جانبه. وفي أغلب الأحيان يُذكَر اسمه في بيانات استقبال الملك للشخصيات الأميركية قبل اسم وزير الخارجية. هو مبعوث الملوك السعوديين الخاص الذي يعمل في كثير من الأحيان بصفة وزير خارجية الظل. لعب دوراً أساسياً في حل الأزمة مع قطر عامي 2013 و2014 بعد جولات مكوكية بين الرياض والدوحة وواشنطن والكويت.