في وقت كانت فيه قاعة المتحف الوطني الإيراني تغصّ بالوافدين إلى معاينة أكثر من 50 عملاً أثرياً وفنياً استُقدمت من متحف «اللوفر» الفرنسي إلى إيران لأول مرة في تاريخ البلاد، كان وزير الخارجية الفرنسي، جان إيف لودريان، يجري مباحثات «شاقة» مع المسؤولين الإيرانيين، بغرضٍ لا يبدو أن تحقيقه بسهولة إعادة تنشيط العلاقات الثقافية بين البلدين، والتي تم الاتفاق عليها خلال زيارة الرئيس حسن روحاني إلى باريس في كانون الثاني/ يناير 2016.
لودريان، الذي استقبلته الصحافة الإيرانية المحافِظة بهجوم كلامي واصفةً إياه بـ«الضيف الفظ» و«خادم ترامب»، حاول جهده إبعاد هذه التهمة الأخيرة عنه، ساعياً في إقناع الإيرانيين بأن تحرك بلاده وحلفاءها الأوروبيين ليس إلا استجابة لمخاوف لديهم، لكن طهران أصرّت على الربط بين التحركات الأوروبية وبين ملاحظات الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، على الاتفاق النووي، محذرة أوروبا من خطورة المضي في هذا المسار. في الخلاصة، استنتج لودريان أنه «ما يزال أمامنا الكثير من العمل»، فيما لوّحت إيران بقدرتها على إنتاج يورانيوم عالي التخصيب «خلال 48 ساعة». نتيجة تطرح المزيد من الشكوك حول «الخطة المشتركة الشاملة»، وتبقي الباب موارِباً أمام إمكانية استفادة «الجمهورية الإسلامية» من العائدات الاقتصادية للاتفاق، أقله في المدى المنظور.

حاول لودريان أن لا تبدو
بلاده بمظهر المستجيب
لضغوط ترامب


واختتم لودريان يومه الماراثوني بتصريحات شدد فيها على أن ثمة «عملاً كثيراً يتعين القيام به» بخصوص برنامج إيران للصواريخ الباليستية ودورها في الصراعات الإقليمية. وأكد الوزير الفرنسي أن بلاده ستواصل مباحثاتها مع الجانب الإيراني، لافتاً إلى أهمية «إيجاد سبيل لتحقيق الاستقرار في المنطقة». ولئن حملت تصريحاته هذه نبرة تشاؤمية، إلا أنها بدت أقلّ حدة من تلك التي أدلى بها لأسبوعية «جورنال دو ديمانش» قبيل وصوله طهران، والتي رأى فيها أن البرنامج الباليستي الإيراني «يخالف قرارات مجلس الأمن، ويتجاوز حاجة إيران»، ملوّحاً للإيرانيين بـ«عقوبات دولية» في حال لم يعملوا على «تبديد المخاوف» إزاء هذا البرنامج. نبرة تصعيدية يبدو أن «الحزم» الذي قوبلت به من طرف إيران حمل صاحبها على التراجع عنها، من دون أن يعني ذلك تبدلاً جوهرياً في الموقف.
وزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف، اعتبر، في تصريحات استبق بها زيارة لودريان، أن «الدول الأوروبية تبدي تطرفاً سيضرّ بسياستها في نهاية المطاف»، محذراً الأوروبيين من «التفاني» في إرضاء الولايات المتحدة على حساب مصالحهم. وأشار إلى أن «أوروبا لم تتمكن بسبب سياسات واشنطن من الإيفاء بالتزاماتها، وخاصة تلك المتعلقة بقطاع المصارف»، مستنتجاً أن أوروبا ومعها أميركا «ليستا في موقع يخولهما فرض شروطهما على بلد التزم بتعهداته بالكامل». وذكّر بأن «الأوروبيين سبق وأن تبنوا خيارات خاطئة أسفوا عليها لاحقاً»، مضيفاً أنهم «اليوم أيضاً يرتكبون الخطأ ذاته وسوف يندمون بالتأكيد». هذه السردية التي تصوّر مغالاة أوروبا في إبداء القلق إزاء «الباليستي الإيراني» نزولاً عند رغبة ترامب في ربط هذا البرنامج بالاتفاق النووي تحت طائلة إلغاء الأخير، اجتهد لودريان في الهروب منها، إلا أنه تلقّى على ما يبدو الكلام نفسه من المسؤولين الإيرانيين كافة، ما أوحى بتوحد إيران في رفضها أي تعديل على الاتفاق، وبأن ذلك الرفض ليس من باب رفع السقف الذي يمكن التنازل عنه.
خلال لقائه، عصر أمس، بروحاني، استمع الوزير الفرنسي إلى تحذير الرئيس الإيراني من أن «الندامة ستحلّ بالجميع إذا انهار الاتفاق النووي»، وتأكيده في الوقت نفسه «أننا مستعدون لأي ظروف تتعارض مع وجهة نظرنا». سبقت ذلك تصريحات مماثلة أدلى بها أمين المجلس الأعلى للأمن القومي، علي شمخاني، أثناء اجتماعه بلودريان، حيث رأى أن «مبادرة أوروبا في تقديم تنازلات لأميركا من أجل بقاء الأخيرة في الاتفاق النووي سياسة خاطئة، وبمثابة تأثر واستسلام أمام لعبة ترامب النفسية». وشدد شمخاني على ضرورة «إسراع الدول الأوروبية في تنفيذ تعهداتها بموجب الاتفاق»، داعياً فرنسا إلى «الإسراع في تذليل العقبات المتبقية أمام عملية التبادل المصرفي». دعوة قابلها لودريان بالقول إنه «سيتم الإعلان قريباً عن سبل جديدة بغية إيجاد انفراجة جدية في العلاقات المصرفية بين البلدين»، من دون إيضاح طبيعة هذه السبل، التي ووجهت سابقاتها بسوط أميركي أرهب المصارف الأوروبية الكبرى. وبشأن البرنامج الباليستي لفت المسؤول الإيراني إلى أن «القدرة الدفاعية الإيرانية لا تهدد أي بلد، وتعزيزها من دون التأثر بأي شيء هو من العناصر الأساسية لحاجات البلاد الأمنية».
وفي الاتجاه نفسه، أكد المتحدث باسم القوات المسلحة الإيرانية، العميد مسعود جزائري، تزامناً مع زيارة لودريان، أنه «لا يحق للأجانب التدخل في القدرات الصاروخية الإيرانية»، مضيفاً أن «تعزيز هذه القدرات سيستمر دون توقف». موقف وازاه تصريح لافت للمتحدث باسم منظمة الطاقة الإيرانية، بهروز كمالوندي، جزم فيه أن «إيران لن تتراجع قيد أنملة عن برنامجها الصاروخي»، مهدداً بأنه «إذا انسحبت أميركا من الاتفاق... فبوسع إيران استئناف تخصيب اليورانيوم بنسبة 20% خلال أقل من 48 ساعة»، موضحاً أن «أجهزة الطرد المركزي التي تمتلكها إيران حالياً تعمل أسرع بـ24 ضعفاً من الأجهزة السابقة».
كلها مواقف وتصريحات تشي بأن إيران استعدت لمحاولات الضغط الأوروبية عليها بتشييد «حائط صدّ» متماسك، لا يستثني أي ذريعة يمكن أن يتعلل بها حلفاء الإدارة الأميركية، بما في ذلك موقف طهران من الأزمة اليمنية، التي نبّه ظريف إلى أنهم (الأوروبيين) «إذا أرادوا استغلالها كوسيلة لإرضاء أميركا فبإمكانهم استخدام طريقتهم، ولكن إيران لن تدخل في هكذا ألاعيب». وعليه، وبالنظر إلى ما آلت إليه زيارة لودريان، يفترض أن تكون الرسالة الإيرانية قد بلغت أروقة الاتحاد الأوروبي، لتضع دوله ومعها بريطانيا أمام خيارين: إما ممانعة الضغوط الأميركية والبحث عن سبل بديلة لإنفاذ الاتفاق، وإما الاستمرار في مجاراتها مع ما يعنيه ذلك من بقاء «الحظر» على الاستثمارات التي كان تلك الدول تتطلع إلى إطلاقها في إيران.
(الأخبار)