الجزائر | تركيا لدى قطاع واسع من الجزائريين هي هذه «الانتفاضة» الاقتصادية الناجحة التي صارت منتجاتها تكتسح أسواق البلاد من أقصاها إلى أقصاها. وهي هذه «الجنّة» التي تناديهم للاستمتاع بعطل راقية في منتجعات وفنادق اسطنبول وبودروم وأزمير وبورصة وطرابزون وأوردو وأنقرة وأنطاليا ومرمريس ومدن وأماكن ساحرة كثيرة أخرى صارت وجهة لعشرات الآلاف منهم في رحلات الربيع والصيف. وهي الأسواق والمحالّ الكبرى والمطاعم الفاخرة والصفقات المربحة. وهي لدى آخرين، ذكرى قاتمة مرّت بالبلد وعاثت فيه فساداً لأكثر من ثلاثة قرون، ثمّ سلمته على طبق من ذهب إلى محتلٍ آخر. وتركيا بالنسبة إلى فريق ثالث هي أمل المسلمين في العودة الى واجهة العالم بعدما حكمتها قوة متجذرة في المجتمع تأتي تدريجياً على قيم العلمانية. لم تمرّ الزيارة التي قام بها الرئيس رجب طيب أردوغان، أخيراً للجزائر، (وانتهت أمس) من دون نشوب حرب بين وجهات النظر على أعمدة الصحف واستديوات قنوات التلفزيون وعلى منصات التواصل الاجتماعي، شبيهة بتلك التي خلفتها زيارة إيمانويل ماكرون، في شهر كانون الأول/ ديسمبر الماضي. يُعطي هذا السجال الانطباع بأنّ التاريخ الذي يُدرّس بالمدرسة من الأقسام الابتدائية حتى الجامعة بالنسبة إلى تخصصات العلوم الاجتماعية، لم يكن له مفعول بالنسبة إلى قطاع واسع من الجزائريين، وخاصة الشباب منهم.

فكتب التاريخ المعتمدة رسمياً في مناهج التعليم تعتبر 132 عاماً من الوجود الفرنسي في الجزائر احتلالاً واستعماراً استيطانياً، وتُمعن في نقل الأحداث المأسوية الناجمة عنه من قتل ونفي عن الديار وتفقير وتجهيل، ولا تشير بتاتاً إلى جوانب العمران الذي زرعه هذا الوجود ببناء المدن وشق الطرق والسكك الحديد ونشر قيم العمل والفن والتعليم العصري والتنظيم النقابي والسياسي وما إليها من جوانب الحياة العصرية، التي لم تكن لتصل دون وجود قوم بلغوا مستوى حضارياً آخر غير الذي كانت عليه الجزائر قبلهم. وتنقل للأجيال أيضاً بطولات الجزائريين منذ أن وطأت أقدام جيش الاحتلال بلادهم، من مقاومة الأمير عبد القادر، إلى الثورات الشعبية المتعاقبة، إلى حرب الاستقلال الكبرى (1954 ــ 1962)، وجاءت تلك الدروس مرصعةً بأسماء كبار المقاومين والمجاهدين والشهداء ومليئة بمآثر تضحيات الشعب الجزائري بمختلف فئاته. بالمقابل، بحث معدّو الكتاب المدرسي الرسمي طويلاً لإيجاد تسمية يعبّرون بها عن فترة الحكم العثماني، واهتدوا الى توظيف عبارة محايدة هي «الوجود العثماني في الجزائر» بدل الاحتلال، علماً بأنّ ما جرى فعلاً هو سيطرة بأتم معنى الكلمة. فالأتراك هم الحكم وهم القرار وهم الجيش وهم القضاء وهم الإدارة وهم من يجمع الثروة، يعاقبون من يشاؤون ويجزون من يشاؤون خلال أكثر من ثلاثة قرون من دون أن يقدموا أيّ إضافة حضارية للبلد. وكان دافع هذا التمييز بين الاحتلالين دينياً بالدرجة الأولى، فالعثمانيون بحسب ما يُكرِّسُه الخطاب الرسمي استنجدت بهم الجزائر في زمن ضعفها، فهبّوا لنجدتها من الهجمات الإسبانية المتكررة بعد سقوط غرناطة وانكماش العرب شرقاً، وسجّلوا بطولات وملاحم وهم يردّون العدوان عن مدن وهران والجزائر وبجاية، ولولاهم لاستولى الأوروبيون على البلاد ومسخوا هوية العباد.
هذه هي الصورة النمطية التي كرّستها كتب التاريخ الرسمية التي تضعها المدارس في متناول الطلاب بالجزائر، حتى إنّ مولود قاسم نايت بلقاسم، وزير الشؤون الدينية والمستشار السابق لدى الرئيسين هواري بومدين والشاذلي بن جديد، دعا في خطاباته وكتبه إلى الكف عن استخدام كلمة الاستقلال للتعبير عن نهاية حقبة الاحتلال الفرنسي، وتعويضها بعبارة «استرجاع السيادة الوطنية»، وإلى استخدام عبارة «الاستدمار» محلّ «الاستعمار» كي يترسّخ لدى الأجيال أنّ الجزائر كانت لها سيادة حتى وهي خاضعة للحكم العثماني. وأنّ الفرنسيين دمّروا ولم يُعمِّروا. وظلّ بعضُ الجزائريين من أساتذة وإعلاميين ونواب في البرلمان ووزراء يستخدمون هذه العبارات البديلة حتى الآن كما تضمنتها كتب تاريخية صدرت في العقود الأخيرة. ويلقى هذا الاتجاه حالياً رواجاً كبيراً مع غلبة التيار الإسلامي على توجه معظم المعلمين والأساتذة.
لكنْ مع انتشار التكنولوجيا الحديثة واتساع رقعة المطالعة وتوفر وسائل النقاش بلا حدود حول مختلف القضايا، اكتشف الناس أنّ هذه الدروس الغارقة في التمجيد مجرّد فقاعات وبهتان. فالداي حسين العثماني، سلّم مفتاح مدينة الجزائر بعدما خسر جيشه المتهالك في ظرف أيام أمام قوّة فرنسية متواضعة لا يزيد تعدادها على 30 ألف ضابط وجندي دخلت من البحر.

لم تمرّ زيارة
أردوغان للجزائر
من دون نشوب
حرب بين وجهات النظر

وسائل التكنولوجيا وقنوات الحوار أدت إلى تعزيز القدرة على التفكير والشك، وفي سياق النقاش والرد على من يمتدحون حتى الآن فترة الحكم العثماني للجزائر، طُرح السؤال الكبير: لماذا انتصر الفرنسيون واحتلوا الجزائر وأهانوا الإمبراطورية، على الرغم من قلة عددهم وموقع ضعفهم كونهم كانوا في البحر وخصمهم على اليابسة؟ لماذا لم يقاوم الجزائريون دفاعاً عن مدينتهم؟... وسيل من الأسئلة الأخرى طُرِحت في أيام زيارة أردوغان وناقشها المئات، بل الآلاف، على مواقع التواصل وفي الصحف... كثيرون أجابوا ببساطة: لأنّ الجزائريين وقتها كانوا تحت ظلم وحيف لا يتصوّرون وجود أفظع منهما، لهذا لم يُقلقهم دخول محتل آخر. وصدرت «كتب مضادة» تروي فظائع العثمانيين وحكمهم الجزائر بالحديد والنار. ورفع الستار عن ثورات شعبية كثيرة في مختلف مناطق البلاد ضد ظلمهم، قادها علماء وفقهاء مثل انتفاضات أحمد اث القاضي، أمير «مملكة كوكو» في منطقة القبايل، ومحمد بلحرش في شرق البلاد، وأحمد التيجاني وسطها، وعبد القادر الدرقاوي في الغرب. ووظّف العثمانيون في الجزائر جيشاً من المرتزقة، نسبة عالية منه غريبة، من أوروبا الشرقية وآسيا، يقتل وينهب، ويتداول الجزائريون كتباً وبيانات ووثائق يكتشفونها للمرة الأولى حول النظام الضريبي القاسي زمن الحكم العثماني والعقوبات التي تطاول من يتأخر عن الدفع أو يتهرّب من الضريبة، رغم أنّ السلطات لا تقدم أيّ خدمات مقابل تلك الضرائب. وفتحت صناديق الذاكرة الجماعية على حكايات موروثة عن أجيال تحكي اضطهاد العلماء وزعماء قبائل وقادة فكر. هرب كثيرون منهم من مواطنهم ولجأوا الى مناطق جبلية وعرة، حيث القبائل العصية على الأتراك. وكانت تلك المناطق الجبلية عبارة عن أراضٍ محررة، لا يدخلها العثمانيون لبأس سكانها وشدّتهم... مئات من العائلات الشريفة نزحت الى الجبال. ونشرت أخيراً وثيقة عن عالم جليل اسمه: سيدي ناصر الخلفي بن عمر الشريف، من أسياد زمانه، طارده العثمانيون فهرب من بلدته «عين الروى» غربي مدينة سطيف إلى منطقة جبلية، تاركاً حقول القمح وبساتين الفاكهة ومئات الرؤوس من المواشي التي صادرها الأتراك. مطاردة هذا العالم كانت بسبب فتوى أصدرها تقضي بجواز الحرب على الأتراك لانهم ظالمون... وتضمنت الفتوى أنّ الظالم يجب محاربته لأنه ظالم، بصرف النظر عن دينه ونسبه. ومن الروايات المنقولة عبر الأجيال، أنّ أحد الحكام الطغاة كان يدَّعي أنّ قراراته مُنزّلة تأتيه في المنام، حين يعلمه جنوده أنّ قبيلة أو بلدة ثارت على قرارات السلطات أو رفضت دفع الضرائب، يقول لهم «أمهِلوني ثلاثاً بلياليها سيأتيني حتى أرى في المنام ما عسانا نفعل»، وبعد ثلاثة أيام، يأمر بزحف جيش جرّار على البلدة أو القرية المتمردة لقتل عشرة أو أكثر من شبابها عقاباً لها على عصيان رسالة المنام.
وخرجت من دهاليز الذاكرة هذه الأيام حكاية مفادها أنّ «مجموعة من الجيش التركي نزلت في ضيافة كبير قوم بإحدى المناطق شرق البلاد. أعدّ صاحب البيت غداًء بحسب عادة فرضها الجيش التركي، بحيث يتناول كل جندي دجاجة كاملة. ولما جاء موعد الأكل، وزعت الدجاجات وكانت إحداها ناقصة رِجلاً. سأل الجندي عن السبب، فابتسم صاحب البيت وقال له: يا سيدي، عندنا طفل مريض بكى لما رأى الدجاج، فأعطوه ما نقص من دجاجتك. ردّ الجندي الابتسامة بأخرى أعرض، وقال: أين هذا الطفل؟ أريدً أن أراه. فرح صاحب البيت، وجاء مُسرعاً وأخذ الطفل إلى الجندي، أملاً بأن يُكرمه. أخذ الجندي الطفل إلى فناء البيت، واستلّ سيفه وبتر له رجله بنفس طريقة نزع رجل الدجاجة».
ويوجد في قسنطينة منحدر صخري سحيق يُسمى حتى الآن «كاف الشكارة»، أي منحدر الكيس. ولقد أخذ المكان هذه التسمية لأنّ العثمانيين كانوا يُقيِّدون من يحكمون عليهم بالموت ويضعونهم داخل أكياس مغلقة ويلقون بهم من علٍ ليصلوا الى الأسفل وقد مزقتهم الصخور المسننة وصاروا عبارة عن عجينة حمراء.
وبشأن تركيا الحالية، فقد نبش الجزائريون في التاريخ ووجدوا أنّها كانت تدعم فرنسا في حربها ضد الثوّار من خلال حلف شمالي الأطلسي، وأنّها صوّتت ضد استقلال بلدهم في الأمم المتحدة. لكن المدافعين عن نظام أردوغان، وهم من الإسلاميين خصوصاً، يردّون بأنّ النظام الذي وقف ضد استقلال الجزائر هو نظام العسكر العلماني، والحكم الحالي شعبي ومدني، ولو كان هو وقتها لوقف مع الثورة. وهاجم هؤلاء الوزير الأول (رئيس الوزراء) أحمد أويحيى، حين طلب ذات مرة من أردوغان الكفّ عن استخدام معاناة الجزائريين زمن الاحتلال لمواجهة الاتهامات الفرنسية بشأن مذابح الأرمن... أردوغان هو زعيم تركيا الآن، لم يكن في الخمسينيات حتى يتبيّن إنْ كان سيقف مع الثورة الجزائرية أو ضدها، ولكنّ دور بلاده بارز في تخريب البلدان العربية التي أرجعها «الربيع العربي» عقوداً إلى الوراء.