ثمة أمر واقع بات موضع إجماع على مستوى العلاقات الدولية، وهو أن اقتحام روسيا معظم الملفات الساخنة في العالم، بات يفرض مقاربة جديدة لفهم التعقيدات المرتبطة بكل ملف بشكل منفصل، على نحو مغاير لما كانت عليه الحال في تسعينيات القرن المنصرم، حين جعلت الولايات المتحدة نفسها اللاعب الأحادي على المسرح الجيوسياسي.
ومع أن التحليلات الخاصة بالسياسة الخارجية الروسية، تنطلق من فهم للأسس الاستراتيجية الكبرى، ضمن العقيدة الروسية الجديدة، بنسختها «البوتينية»، إلا أن التكتيكات الصغرى والكبرى لا تزال تغلب عليها تكهّنات، تعززها طبيعة التحركات الروسية نفسها، ولا سيما في أكثر الملفات تعقيداً كالنزاعات الشرق أوسطية.
انطلاقاً من هذا الواقع، يشكل «منتدى فالداي» فرصة مهمة لفك بعض الطلاسم المرتبطة بالتحركات الروسية، ولا سيما في الشرق الأوسط، حيث تبدو العلاقات الدولية أكثر تعقيداً، قياساً إلى ما هي الحال في نقاط توتر أخرى في العالم، خصوصاً أن النسخة الحالية من هذا المنتدى السنوي، قد حملت شعار «روسيا في الشرق الأوسط... لاعب في كل الساحات».
وعلى هذا الأساس، فإنّ النقاشات التي احتضنها «فالداي-2018»، بدت محاولة متقدمة لفهم الكثير من المواقف الروسية المرتبطة ببؤر التوتر الإقليمية القائمة، ولا سيما في سوريا وتركيا واليمن، بالإضافة إلى المسائل الأخرى، المرتبطة بهذين الملفين، سواء تعلّق الأمر بمستقبل الأكراد في الشرق الأوسط، أو الدور الإيراني المتنامي في الإقليم، فضلاً عن المتغيرات التي طرأت على الملف الفلسطيني، خصوصاً في ظل سعي إدارة الرئيس دونالد ترامب، إلى فرض شروط جديدة لعملية التسوية، من بوابتي القدس واللاجئين.
وعلى مدار يومين، ناقش المشاركون في «فالداي-2018» الذي انعقد في موسكو في اليومين الماضيين ــ مع الإشارة إلى أن اسمه مستوحى من بحيرة فالداي، الواقعة عند منتصف الطريق بين موسكو وسانت بطرسبورغ، حيث نُظّم للمرة الأولى في عام 2004 ــ أبرز ما يواجه الشرق الأوسط من أزمات وتحديات، بالإضافة إلى الخيارات والسبل المتاحة لتجاوزها والانتقال بالمنطقة إلى مرحلة أكثر أمناً واستقراراً، بدءاً بالأزمة السورية، والحرب الجارية في اليمن، مروراً بالصراع العربي-الإسرائيلي، ومصير الأكراد في المنطقة، وصولاً إلى الدور المتصاعد لإيران على المستوى الإقليمي.
ولعلّ أهمية النسخة الحالية من «فالداي» تكمن في أن المشاركين في المنتدى، من سياسيين ودبلوماسيين وخبراء، باتوا أكثر فهماً للدور الروسي في الشرق الأوسط، بعد سنوات من محاولة الرصد والتأويل، أقلّه من الناحية العامة، المتصلة بنجاح الدبلوماسية الروسية في «استخدام مجموعة متنوعة من الوسائل العسكرية والدبلوماسية لكسب الهيبة والاحترام في منطقة عانى فيها العديد من اللاعبين العالميين مراراً من الهزائم»، حسبما جاء في الإعلان الرسمي، انطلاقاً من «قدرة روسيا على الحفاظ على علاقات العمل مع قوى مختلفة، وأحياناً على الرغم من الانتقادات الشرسة»، وهو ما يجعلها قادرة على أن «تتعاون روسيا بنجاح مع إسرائيل وحزب الله، مع إيران والسعودية، مع الحكومة والمعارضة في سوريا، مع الحكومة في طرابلس ومجلس النواب في طبرق والقبائل في جنوب ليبيا، ومع قطر وأبو ظبي....»، محوّلة وجودها العسكري إلى «رافعة مهمة للنفوذ».
الملفان السوري والليبي احتلا الحيّز الأكبر من النقاش في النسخة الحالية من «فالداي-2018»، بالنظر إلى كونهما العقدتين اللتين تتجمع عندهما كافة الصراعات الإقليمية والدولية في الشرق الأدنى من جهة، وشمال إفريقياً من جهة ثانية.
على هذا الأساس، استحوذ الملف السوري على جلسات اليوم الأول من «فالداي»، فيما كان الملف الليبي الأبرز من جلسات اليوم الثاني والأخيرة.
بطبيعة الحال، فإنّ مداخلات الجلسة الافتتاحية للمنتدى، أول من أمس، رسمت الإطار العام للجلسات اللاحقة، من خلال مجموعة أفكار طرحها وزير الخارجية الروسي سيرغي لافرف، ونظيره الإيراني محمد جواد ظريف. وكان طبيعياً، في ظل الظروف الراهنة، أن يعطي لافروف في كلمته الحيّز الأكبر للملف السوري، إذ أشار إلى أن «السبب الجذري للكارثة السورية هو التدخلات الخارجية المنفلتة الحدود، التي شهدها الشرق الأوسط»، والتي أدت بنظره إلى «تعزيز قوة الجهاديين». وأشار رئيس الدبلوماسية الروسية إلى أن «نقطة التحول فى الحرب على الإرهاب كانت مشاركة روسيا استجابة لطلب الحكومة الشرعية فى سوريا»، لافتاً إلى أنه «بفضل الدعم الذي قدمته قوات الفضاء الروسية، نجح الجيش السوري في تطهير معظم أراضي البلاد من الإرهابيين، في وقت أتاح فيه التفاعل السياسي مع إيران وتركيا تهيئة ظروف أكثر ملاءمة لحل المشاكل الإنسانية وتوفير الانتقال إلى تسوية سياسية».
وشدد لافروف على أن «إقامة مناطق تخفيف التصعيد وعقد مؤتمر حوار وطني يعدان عنصرين مهمين في جهود روسيا لتحقيق المصالحة داخل سوريا».
مع ذلك، بدا الوزير الروسي حذراً في رفع منسوب التفاؤل، إذ تحدث عن «مشكلة جديدة تختمر اليوم في سوريا، وهي محاولات لتقسيم البلاد»، موضحاً أن «هذه المخاوف تنشأ عندما نتعرف إلى الخطط التي بدأتها الولايات المتحدة على الأرض في المقام الأول إلى الشرق من نهر الفرات، وعلى الأراضي الشاسعة بين هذا النهر والحدود الدولية لسوريا مع العراق وتركيا». وفي هذا الإطار أيضاً، أكد لافروف أن روسيا «تؤيد المصالح المشروعة للأكراد، ولكنها تعارض بشكل قاطع محاولات القوى الخارجية استخدام هذه التطلعات لتحقيق أهدافها».
ورداً على سؤال عن احتمالات المواجهة بين إيران وإسرائيل، على خلفية التطورات الجارية في سوريا، أجاب لافروف بأن «روسيا تعتبر أن التصريحات بمحو إسرائيل عن وجه الأرض غير مقبولة، ولكنها لا تقبل في الوقت ذاته بمحاولات فرض مقاربة للأزمات الإقليمية من خلال منظور الصراع مع إيران». وأضاف: «نريد أن يشعر الزعماء الإسرائيليون بالأمان تماماً، ولكننا نحتاج إلى إجراء حوار»، رافضاً محاولات القوى الخارجية استخدام «المواد الأكثر تفجيراً»، والمتمثلة بالتناقضات بين السنة والشيعة، لتحقيق الأهداف السياسية، ومشدداً على ضرورة الشروع في إجراءات بناء الثقة، ومن ثم الأمن، في منطقة الخليج، بمشاركة دول مجلس التعاون الخليجى وإيران.
من جهته، شدد ظريف على ضرورة تشكيل «منظومة للأمن الجماعي» في الشرق الأوسط، لكنه رأى أن أمراً كهذا لا يمكن أن يحصل من دون «التخلي عن الأفكار القديمة حول الأمن الإقليمي»، موضحاً: «نحن في حاجة إلى منطقة قوية، وليس إلى رجل قوي، وبالتالي إنّ محاولات لعب دور الهيمنة الإقليمية غير مقبولة».
وأقر ظريف بأن إحدى العقبات الرئيسية أمام إنشاء نظام أمني شامل في الشرق الأوسط، تتمثل في المواجهة بين إيران والمملكة العربية السعودية، معرباً عن اعتقاده بأن «مثل هذه المواجهة لا لزوم لها بل وخطيرة».
واتفق ظريف مع موقف لافروف القائل إن «الأحاديث عن الصراع بين السنة والشيعة غالباً ما تكون مبالغة في تقديرها، وخاصة من قبل القوى الخارجية التي تسعى إلى تحقيق أهدافها الجيوسياسية»، مشدداً على أن روسيا «تمتلك مواقف استراتيجية قوية في المنطقة، وبالتالي يمكنها أن تلعب دوراً أساسياً في إطلاق نموذج جديد».
وفي وقت تعيش فيه سوريا مخاض التسوية السياسية المعقّدة، في ظل التشويش الأميركي المتواصل على الجهود الدبلوماسية، التي اتخذت مستويات متقدّمة في أستانا وسوتشي، بالتوازي مع مسار جنيف، وبروز تعقيدات جديدة على الساحة السورية، تتبدى اليوم، بنحو أساسي في عفرين، فقد عكست الجلسة الثانية من منتدى «فالداي» الوجهة العامة التي تسير عليها المقاربة الروسية، والتي تقوم أساساً على بحث مستقبل سوريا بعد الحرب.
وعلى هذا الأساس، تطرّق المشاركون إلى فرص السلام وإعادة الإعمار، حيث برز اتفاق على ضرورة الحفاظ على سيادة سوريا وسلامة أراضيها، باعتبارها مصلحة مشتركة لكل أطراف النزاع. وانطلاقاً من المعطيات الميدانية، التي تظهر اقتصار سيطرة الحكومة السورية على 60 في المئة فحسب من الأراضي، وامتلاك القوى المعارضة موارد غير محدودة، فقد استقر الرأي بين معظم الخبراء المشاركين في الجلسات على أن الأزمة السورية لا يمكن حلها إلا سياسياً، وبمشاركة كل الأطراف، دون استبعاد أيّ من المكوّنات، مع التشديد على أن أمراً كهذا لا يمكن أن يتحقق من دون دعم المجتمع الدولي، وهو ما يتطلب القيام بدور بناء من قبل القوى الكبرى، ولا سيما روسيا والولايات المتحدة، والقوى الإقليمية المؤثرة، لا سيما تركيا وإيران والسعودية.
وأمّا الملف الليبي، الذي كان الأبرز في جلسات اليوم الثاني، فكشف عن تناقض حقيقي بين المقاربتين الأميركية والروسية للصراع المستمر منذ سبعة أعوام.
السفيرة الأميركية السابقة في ليبيا (2013-2015) ديبورا ك. جونز تساءلت عن «قدرة ليبيا على ممارسة سيادتها»، في ظل غياب البنية التحتية للدولة، ولا سيما «البيروقراطية». وانطلقت الدبلوماسية الأميركية، التي عايشت إحدى أهم محطات الأزمة الليبية الحالية، مما قاله لها أحد «الأصدقاء الليبيين»: «قبل عام 2011، كان يحكمنا شخص يدعي أنه غير مسؤول عن شيء... اليوم صار يحكمنا عدّة أشخاص يدّعون أنهم مسؤولون عن كل شيء».
كلام جونز عكس بوضوح الإطار العام للتعامل الأميركي مع الملف الليبي، وعنوانه العريض أن «ليبيا هي قبائل وواحات انضوت في إطار دولة غير مكتملة». ووفقاً للسفيرة الأميركية، فإنّ الحديث يدور عن «دولة لم يكن لها وجود قبل عام 1949»، فالدولة الليبية وفق رأيها «تأسست لأهداف محدّدة، وقد شارك في ذلك الولايات المتحدة وبريطانيا، بعدما وُجد هناك نفطٌ وأموال، ومع ذلك، لم تكن هناك رغبة في إنشاء جهاز للدولة، بما في ذلك البيروقراطية الداعمة، ومبدأ تداول السلطة».
وتساءلت جونز: «في هذه الحال، كيف يمكن أن تنشأ في ليبيا دولة تتمتع بسيادة القانون وضمان الأمن للمواطنين والحصول على الثروة وتوزيعها بنحو متكافئ على كل أفراد المجتمع؟ وكيف يمكن التنسيق والتواصل مع الجيران؟».
الإشكالية الكبرى في المقاربة الأميركية للأزمة الليبية، لخّصتها جونز بالقول إنّ «ليبيا أرض مهمة، ولكنها تعاني من فراغ، لا يمكن أن يستمر طويلاً، ومع ذلك، فإنّ أحداً لم يستطع أن يدخل ليبيا من الخارج، وما من جهة ستكون جاهزة لاستثمار أموال وموارد بشرية في ظل غياب الدولة وعدم تحقق المصالحة الداخلية».
برغم صوابية حديث الدبلوماسية الأميركية عن ضرورة بناء الدولة الليبية، وتحقيق المصالحة السياسية، إلا أن مداخلتها لم تخل من «فوقية أميركية» تبدّت في ما ختمت به مداخلتها من حديث عن «الأمّية السياسية» السائدة في ليبيا، التي أعادتها إلى تداعيات حقبة معمّر القذافي، والتي تجعل على سبيل المثال كلمة «فدرالية» محظورة في الخطاب السياسي الليبي.
على نحو مغاير، تحدّث رئيس مجموعة الاتصال الروسية بشأن ليبيا ليف دينغوف، مشيراً إلى رغبة داخلية ليبية في الوصول إلى حلول سياسية، في مقابل تدخلات خارجية تعرقل أية اتفاقات في هذا الشان. وقال: «إذا أردنا التطرّق إلى الأوضاع الحالية في ليبيا، فإنّ الحديث من منطلق أن القذافي كان سيئاً أو صالحاً، هو ثرثرة سياسية غير مفيدة»، مشيراً إلى أن «الشعب الليبي كان مستعداً للثورة... ولكن هل الشعب الليبي نفسه كان صاحب قرار إسقاط القذافي؟». وتطرّق دينغوف إلى جهود تحقيق السلام في ليبيا، بالقول إن «الليبيين أبدوا استعداداً كبيراً في التوصل إلى اتفاق»، وهو ما أظهرته تجربة مدينة مصراتة التي شهدت جداً مشتركاً في ضرب إرهابيي «الدولة الإسلامية»، ولكنه أشار إلى العراقيل الأساسية المتمثلة بالجهات الخارجية التي «تعرقل كل الاتفاقات»، بما في ذلك اتفاق الصخيرات. واقترح، في هذا الإطار، «تفعيل الجهود المبذولة من قبل الأمم المتحدة» التي تسير «بخطىً بطيئة»، مشدداً على أنه «حان الوقت لكشف اللاعبين الخارجيين... هناك بلد يقوم بتسليح ثلاث جهات، حيث تصل الأسلحة إلى طبرق، ثم إلى طرابلس، وغيرها».

مداخلات الجلسة الافتتاحية للمنتدى رسمت الإطار العام للجلسات اللاحقة

واستشهد دينغوف بكلام الرئيس فلاديمير بوتين حول ليبيا، باعتبارها «بلداً فيه الكثير من العقد، التي لا يمكننا قطعها، ولذلك يجب العمل على تفكيكها... ونحن نسير في هذا الاتجاه».
تناقض المقاربتين الأميركية والروسية إزاء القضايا الإقليمية، تبدّى أيضاً في النقاش الذي شهدته جلسة «فالداي-2018» المخصصة للبحث في آفاق «التسوية بين الفلسطينيين والإسرائيليين»، خصوصاً بعد قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل.
وفي هذا الإطار، قدّم نائب وزير الخارجية الروسية ومبعوث الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الخاص إلى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ميخائيل بوغدانوف، تحليلاً مفصّلاً لـ«تغيّر الموقف الأميركي» من عملية التسوية في الشرق الأوسط. وأشار إلى أن «بعض الخبراء في واشنطن دافعوا عن قرار نقل السفارة الأميركية إلى القدس، انطلاقاً من مزاعم بأنّ روسيا قامت بالخطوة ذاتها، ولكني أريد أن أعلّق على هذه النقطة بالذات، ففي شهر نيسان من عام 2017، أصدرنا بياناً رسمياً لوزارة الخارجية، تضمن دعماً لجهود التسوية على أساس حلّ الدولتين، وركزنا على ضرورة قيام دولة فلسطينية على حدود عام 1967، وقلنا إننا نعترف بالقدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية، وفي الوقت ذاته إننا نعترف بالقدس الغربية عاصمة لدولة إسرائيل، أي إننا أقمنا جسراً بين القدس الشرقية فلسطينياً والقدس الغربية إسرائيلياً»، مشدداً على أن «احتمال نقل سفارتنا غير مدرج على جدول الأعمال، لأن مدينة القدس هي موضع مفاوضات بين الطرفين».
وحذّر بوغدانوف من خطورة الخطوة الأميركية، من الناحية السياسية، قائلاً: «قد يعتقد الإسرائيليون أن الموقف الأميركي يسهم في تحقيق التسوية وسط شروطهم، وهم يكثفون أعمالهم الأحادية الجانب لخلق وقائع جديدة على الأرض... وعندما يقول شركاؤنا الأميركيون إنه لا بد من الاعتراف بالوقائع على الأرض، فإننا نعتبر الأمر بالغ الخطورة، لأن ذلك قد يقود إلى الاعتراف بشرعية المستوطنات، برغم أنها أصلاً غير شرعية».
وأشار المسؤول الروسي إلى أنه «في ظل الظروف الحالية، لا بد من التحذير من أن حلّ الدولتين يتعرض للخطر، وآفاق التسوية العادلة على أساس الشرعية الدولية تذوب»، معرباً عن استعداد روسيا لرعاية الحوار الفلسطيني ــ الإسرائيلي.