إسطنبول | صورة كبيرة للرئيس رجب طيب أردوغان. الكثير من الأعلام الهائلة الحجم وأبنية جديدة عملاقة ترتفع على طرفي الطريق من مطار أتاتورك إلى ميدان بايزيد في حي الفاتح. هذان المشهدان البارزان اللذان يطالعانك عندما تزور إسطنبول للمرة الأولى يشكّلان إلى حدّ كبير رمزين أساسيين يلخّصان حاضر تركيا.
هذه زبدة عهد «العدالة والتنمية» التي قامت على فكر إسلامي «معتدل»، مع تركيز خاص على الاقتصاد وتقوية الاستثمار وموقع رجال الأعمال. أما الأعلام العملاقة فترمز أيضاً إلى جانب مستحدثٍ في عقيدة الحزب الحاكم، وهي النزعة القومية التي تكرست أخيراً بتحالف مع حزب «الحركة القومية»، وتتفاعل أكثر مع كلّ عملية عسكرية تطلقها تركيا عبر الحدود، كما الآن في العدوان على عفرين السورية.
الخطاب القومي الذي يتعزز مع كل مغامرة عسكرية، يأخذ شكل التشديد على الرموز العثمانية والإسلامية في الآونة الأخيرة، حتّى في السوق الشعبي. في الـ«غراند بازار» وبين الحرف التقليدية المنتشرة بكثرة، تجد لعبة شطرنج «محافظة»، إذ استبدلت القطع التقليدية للعبة بقطع تمثّل جيشاً إسلامياً من جهة، وصليبياً من جهةٍ ثانية، وفي بعض الأحيان، جيشاً عثمانياً.
العثمانية – الإسلامية هي الهوية التي يحاول «العدالة والتنمية» تعميمها في هذه المدينة القديمة، التي لا يمكن، بأي شكلٍ من الأشكال أن تتمتع بهوية واحدة وصوتٍ واحد كالذي يريد أردوغان فرضه بطرق شتّى، مثل إزالته لتمثال «أكدينيز» (أي المتوسطي باللغة العربية) للنحات التركي إلهان كومان من شارع الاستقلال إلى الطبقة الثالثة في المركز الثقافي «يابي كريدي». الحجة هي أن التمثال يجسد امرأةً عارية!
تلك التناقضات الهوياتية والثقافية والطبقية واضحة في اسطنبول، بين التراث العريق في السلطان أحمد مثلاً، والبيوت الجميلة، الباردة والبعيدة، كـ«الحصن الأصفر» في حديقة إيمرغان العامة على البوسفور، والتي تشكّل الصورة النمطية التي نراها عن المدينة في المسلسلات المدبلجة إلى العربية، لكن في اسطنبول أيضاً الكثير من الأصوات المختنقة.

أصوات من إسطنبول

في المترو إلى تقسيم، وجهتنا الأولى، قاطع صوت عازف الغيتار، الذي يشبه صوت إلفيس بريسلي المثالي في عزفه وغنائه وهو يقدّم للعابرين غير الآبهين جمالاً لا يستحقونه. شعور الذهول الأول الذي تمنحك إياه تلك المدينة يجعلك تدرك أنها ليست مدينة فقط، ليست ساحاتٍ وشوارع ورياحاً باردة، بل هي روح.
هذا الشاب الموهوب بشكلٍ يفوق التعبير لا يعزف تسليةً أو تمضيةً للوقت، بل بهدف تأمين لقمة عيشه. كان من الصعب العبور من دون النظر إلى الخلف، لأن في ألمه شيئاً ما يجذب المستمع إليه وهو يجلس في كرسيه ويغطي وجهه، لماذا يغطيه؟ ربما يغطي ألمه. يعترضه رجلٌ خمسيني، يتوقف الصوت فجأة، لا يفهم الحوار الذي دار بينهما، لكن لا بدّ أن الرجل سأل العازف الغامض عن سبب غنائه في المترو، لأن الأخير أشار في يده إلى أنها «لقمة العيش»، قبل أن يكمل غناءه الساكن المؤلم.

الكلّ سار في سبيله
غير مستعدّ لتحمّل تكلفة مجرّد النظر
إلى متظاهرتيْن

مع العبور من المترو إلى ميدان تقسيم، يقطع صوت الضجيج العاديّ للمدينة صوت صراخ خافت.
وحيدتين كانتا فيها بعد ظهر يوم 3 شباط 2018، تسلطت عليهما عدسات بعض الصحافيين، وهما تصرخان، بعزم، وفي وقوفهما يقين أن الوقت المتبقي لهما قصير جداً. لكن لا بأس، فالصوت وصل، ولو أخرسته لاحقاً يد الشرطي.
المرور العابر للمارة في الساحة يشعرك بوضوح أن هذا المشهد مشهد عادي في تقسيم التي شهدت تظاهرات واشتباكات مع الشرطة قبل حوالى خمس سنواتٍ فقط، ولا تزال ولو بوتيرة أخف. غير أن المرور الصامت للمارة، في هذه المرحلة من تاريخ تركيا، هو بالتأكيد مرور الخوف، بعد التطورات الكبيرة التي شهدتها البلاد وحملة القمع الهائلة المستمرة منذ تموز 2016، أي بعيد محاولة الانقلاب الفاشلة التي يتهم الداعية فتح الله غولن وجماعته بتدبيرها. يبدو هنا أن لا أحد مستعد للتضحية في حياته ودخول السجن للدفاع عن مظلومتين منعتا من التعبير عن رأيهما بشكل سلمي.
الكلّ مشى، توقف قليلاً، ألقى نظرةً هامشية، وسار في سبيله غير مستعدّ لتحمّل تكلفة مجرّد النظر إلى متظاهرتين وحيدتين.
«السيدتان تتظاهران احتجاجاً على إصدار قرار بإلباس السجناء السياسيين لباساً موحداً، مثل غوانتانامو...»، أخبرتني المصورة الصحافية الفرنسية التي كانت تغطّي الحدث. قلت لها: «لباساً برتقالياً؟». أجابت: «لا، لا! أزرق!». لا مشكلة في اللون الذي يبدو أن لا أحد يتفق عليه، بل في العبرة.
هذا القرار قد أصدر في 24 كانون الأول الماضي، وهو ينص على أن كل الموقوفين بجرم مخالفة قوانين مكافحة الإرهاب في تركيا عليهم أن يظهروا بلباسٍ موحد في المحكمة، رماديّ أو بنيّ (وليس أزرق)، وفق نوع «الجريمة» ويصل عدد هؤلاء إلى حوالى 58 ألف موقوف. يضيف القرار أن من يرفضون ارتداء اللباس الموحد، سيخسرون «امتياز زيارة أقربائهم لهم في السجن». النظام التركي إذاً يريد وصم معارضيه بثياب موحدة، تميزهم عن غيرهم من السجناء؛ يريد تمييز جرمهم الذي هو مخالفة مواقف «حزب العدالة والتنمية» وهو ما يضعهم حتماً في خانة دعم «الإرهاب».
«أبناؤنا يحيون بشرف»، هذا ما قالته السيدتان اللتان شكّل احتجاجهما جزءاً من تظاهرة أوسع لمجموعة «تاياد» انتهت بمؤتمر صحافي، في وقتٍ سابق من ذاك اليوم، وهي مجموعةٌ تأسست في عام 1986، من قبل أقرباء السجناء حينها للمطالبة بتحسين ظروف سجنهم، ولا تزال ناشطةً حتى الآن مع عدم تغيّر واقع وجود تمييز وظلم بحقّ السجناء السياسيين في تركيا، تحت النظام العسكري في الماضي، أو الآن تحت النظام «الإسلامي».
هذا التشابه بين الماضي والحاضر كان موجوداً في احتجاج السيدتين اللتين أشارتا إلى مرحلة ما بعد ثالث انقلاب عسكري شهدته تركيا في عام 1980، حينما رفض السجناء السياسيون في عام 1984 ارتداء لباس موحد، ولعلّ هذه مقاربة تشكل رمزية كبيرة لتطور تاريخ البلاد من الانقلابات العسكرية إلى الانقلاب «القانوني» الذي يقوم به «العدالة والتنمية» تحت حالة الطوارئ.
تشبيه الصحافية الفرنسية لمسألة تمييز السجناء السياسيين في تركيا بـ«غوانتانامو» يحمل أيضاً الكثير من الرمزية التي تحاكي واقع البلاد السياسي اليوم. غوانتانامو مكان سيئ السمعة، للسجان قبل المسجون، دهليز من الغموض الذي لا ينتهي. هذه هي تركيا اليوم. الكل يرى كل شيء، لكن الجرأة المطلوبة على اتخاذ خطوة في سبيل ما يجري تخفت. الجميع يعرف أن هناك شيئاً ما يحصل، يهمسون بشأنه، يحملونه في قلوبهم، يتبادلونه في تحاياهم وعيونهم، لكن قول الأشياء كما هي مجازفة كبرى بحياة كل واحد من أبناء هذه المدينة الصامتة.
لم نعرف مصير المتظاهرتين الوحيدتين اللتين جاءت سيارة الشرطة، أمام أعين الجميع، وأخذتهما بعيداً بعدما كمّ الشرطي أفواههما بيده. صورة هي حاضر هذه البلاد وماضيها: الوقت قصير جداً للتكلم، ستأتي اليد وتخنق صوت من يرفع الصوت. ومن لا يتكلم سيختنق، أو يتحول تدريجياً إلى واحد من أولئك المارة العابرين، يسابق الوقت ويشيح بنظره عن الحقيقة الواضحة، لكن هناك دائماً من سيرفع الصوت بوجه الظلم.