في وقت لا تزال فيه الخشية من عودة الأجانب الذين سبق لهم القتالُ في صفوف تنظيم «داعش» مخيمة على الدوائر الرسمية في الدول الأوروبية، بدأت حكومات تلك الدول وضع خطط وتنفيذ إجراءات تستهدف معالجة الأسباب الكامنة خلف «نَفْر» أولئك المقاتلين، في إطار عملها المستجد على توليد ما بات يُعرف بأنه «إسلام أوروبي». «إسلام» يبدو أن القطع ما بين أماكن اجتماع المسلمين وممارستهم أنشطتهم (كالمدارس والمعاهد والمساجد)، وما بين التأثير العربي، وخصوصاً تأثير المملكة السعودية التي بات مسلّماً بدورها في تصدير دعاة وهابيين إلى أوروبا، سيكون من أبرز معالمه.
في هذا الإطار، يأتي حديث الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، عن نيته «السعي للحد من تأثير الدول العربية على إسلام فرنسا لأنها تبعده عن الحداثة»، وفق ما نقلت عنه مجلة «لوجورنال دو ديمانش» قبل يومين. وفقاً للمجلة، فإن ماكرون يُعِدّ لـ«مخطط عام من أجل إعادة هيكلة الإسلام الفرنسي وتوضيح ماهيته»، خلال النصف الأول من عام 2018. المخطط الذي يسير «خطوة خطوة»، والذي يُجري الرئيس مشاورات بشأنه مع مثقفين وأكاديميين وممثلي ديانات، يتركز على نقاط عدة يتصدّرها إنشاء مؤسسات تمثيلية لمسلمي فرنسا، وإخضاع دور العبادة لرقابة مالية، وتأهيل أئمة فرنسيين للحلول محل الأئمة القادمين من دول أخرى، في مقدمها السعودية.
ويشكل إعلان ماكرون استجابة «متأخرة» لمطالب تصاعدت منذ الهجوم على صحيفة «شارلي إيبدو» في 13 تشرين الثاني/نوفمبر 2015. مطالب عمدت السلطات على إثرها إلى إغلاق مساجد اتُّهمت بأنها «تبث الكراهية»، وطرد دعاتها من الأراضي الفرنسية. إثر ذلك، ارتفع الجدل حول كيفية الحد من «التغوّل الوهابي»، خصوصاً مع تزايد المخاوف من عودة المقاتلين الأجانب إلى أوطانهم. وبرزت من بين تلك المناقشات دعوات إلى إغلاق المساجد والمعاهد التي أنفقت السعودية على إنشائها ملايين الدولارات، وإلى عدم المساومة على «السلم الاجتماعي» بالمصالح التي تربط باريس والرياض. اليوم، يُسجّل ماكرون محاولة للانفكاك من تلك المعادلة، و«الحفاظ على التماسك والانسجام الوطني»، في ظل استطلاعات رأي «مبشّرة» تقول إن 56% من الفرنسيين يعتبرون الإسلام متطابقاً مع قيم مجتمعهم، على عكس ما كانت غالبيتهم تؤمن به قبل عامين.

يتطلع ماكرون إلى فرض رقابة مالية على دور العبادة الخاصة بالمسلمين

في بلجيكا، التي صدّرت مقاتلين إلى سوريا أكثر من أي بلد آخر في أوروبا، لا يبدو المشهد مختلفاً. تضع السلطات هناك اللمسات الأخيرة على اتفاق يُفترض أن يُعلن الشهر المقبل، قوامه كفّ يد السعودية عن المسجد الكبير الواقع قرب مقر الاتحاد الأوروبي في بروكسل، والذي كانت الحكومة قد أجّرته للرياض عام 1969 لمدة 99 عاماً. مذّاك، صدّرت المملكة دعاةً «وهابيين» كثيرين إلى المسجد، كان لهم «الفضل» الأكبر في تنشئة شبان «جهاديين» سرعان ما طلع نجمهم مع بدء «النفير» من أوروبا إلى الشرق الأوسط. حصل ذلك كله في ظل صمت حكومي بلجيكي اشترته الرياض بمنحها بروكسل أسعاراً تفضيلية في التجارة النفطية. لكن، مع امتداد نيران الجماعات الإرهابية إلى قلب العاصمة البلجيكية في 22 آذار/مارس 2016، بدأت تتعالى المطالبات بإغلاق المسجد، الذي تقول مصادر أمنية إن بعضاً ممن هاجروا إلى سوريا بهدف القتال حضروا دروساً فيه. وكان آخر تلك المطالبات في شهر تشرين الأول/أكتوبر الماضي، عندما دعا البرلمان البلجيكي الحكومة إلى إنهاء عقد تأجير المسجد للسعودية؛ لكون المسجد أضحى «بوابة لإسلام أميل للعنف».
على إثر تلك الدعوة، شكلت الحكومة وفداً، برئاسة الدبلوماسي ديرك آشتن، أوكلت إليه مهمة التفاوض مع الرياض في هذا الشأن. يقول آشتن، بشأن زيارته للمملكة الشهر الماضي، إن «السعوديين ميالون للحوار بلا محاذير»، معتبراً الخطوات التي أقدمت عليها السعودية في الآونة الأخيرة «فرصة» لتحقيق ما تتطلع إليه بروكسل، فيما يؤكد وزير الداخلية البلجيكي، جان جامبون، أن «الوضع تحت السيطرة» بعدما حرصت بلاده على «عدم حدوث ردّ فعل دبلوماسي سلبي من قبل الرياض». تصريحات تنبئ بأن ثمة استعداداً سعودياً للتخلي عن نهج المملكة المتقادم في «نشر الوهابية في العالم»، وهو ما كان قد تبدى في محاولة «رابطة العالم الإسلامي» السعودية التي تتولى إدارة غير مسجد في العالم (من بينها مسجد بروكسل) تلميع صورتها، وتبييض مهمتها التي قالت إنها أضحت «القضاء على التطرف». لكن يبقى التحدي في ما عبّر عنه آشتون بالقول إن «البعض لا يعترف، أو لا يكاد يعترف، بأن هذا الشكل من أشكال السلفية يقود إلى التطرف». بتعبير أوضح، ليس ابن سلمان وحده في المملكة، بل ثمة في قبالته مؤسسة دينية متجذرة وصاحبة نفوذ، لن يكون تجاوزها بلا عقبات أو أثمان.
(الأخبار، رويترز)