الحوار مع جيفري أرونسون مثمر لأن الرئيس السابق لـ«مؤسسة السلام في الشرق الأوسط» يطلّ من خلال مسيرة بحثية لم تنقطع طوال أربعين عاماً على الكثير من الملفات الأساسية في الصراع العربي ــ الإسرائيلي، وقف خلالها على العديد من المعلومات والمعطيات والتحولات، وسجّل بعضها في كتابه عن «علاقات أميركا مع مصر وإسرائيل».
كذلك، سجّل الكثير من هذه المعطيات في تقارير عن الاستيطان الإسرائيلي، من خلال «مرصد الاستيطان» الذي أداره حتى عام ٢٠١٤، وفي كتابه عن «الأمر الواقع في الضفة الغربية». في دائرة جيفري أرونسون، مجموعة علاقات أقامها مع عدد كبير من المسؤولين الأميركيين والإسرائيليين، وتجمعه أيضاً علاقات صداقة مع العديد من الشخصيات الفلسطينية، بحكم مواقفه النقدية لإسرائيل، وتأييده لحل الدولتين، وانفتاحه على الحوار مع جميع الأطراف، التي لا يستثني «المُشيطنة»، منها كـ«حماس» وحزب الله. يندرج أرونسون بين قلة من الخبراء، الذين لا يكتفون بإبداء الآراء، بل يحاولون التأثير على مراكز القرار في الولايات المتحدة باتجاه ما يرونه سياسات أكثر توازناً


جرى الحوار مع جيفري أرونسون في لحظتين محوريّتين: الأولى اعتراف الرئيس دونالد ترامب بالقدس عاصمة أبدية لإسرائيل. وفي هذا الإطار، هناك ميل للافتراض بأن استراتيجية ما تحكم تصريحات الرئيس الأميركي، إلا أنه فهم خاطئ لكيفية عمل هذه الإدارة. لكن كيف يفسر إذاً اعتراف ترامب بالقدس عاصمة أبدية لإسرائيل؟ لا يعتقد أرونسون أن ما يقولونه يعبّر عن استراتيجية للنظام الأميركي. ربما هي نتيجة لفكرة خطرت لترامب وأطلقها عبر موقع «تويتر»، لكن «تجربتنا في الماضي تدفعنا كي لا نصدق ما يقوله الرؤساء، وهم غير مقتنعين بما يقولونه أحياناً». ويقول إن «هذا استنتاجاً خطراً، من الممكن في بعض الحالات أن يفترض طرف ما أن الرئيس ليس جدياً في تصريحاته وأن يكون هو جدياً، فنذهب إلى أزمة كبرى كما يحدث مع كوريا الشمالية، أو يفترض طرف آخر عكس ذلك، وبالتالي لا ينفّذ ما قاله، ويكون لذلك نتائج وخيمة».
أما اللحظة الثانية، فهي تزايد التقارب الإسرائيلي ــ السعودي، وهي لحظات يطفو فيها على السطح الجزء الغارق من جبل جليد هذه العلاقات، التي سجّل فيها أرونسون انتقالها السريع إلى شراكة استراتيجية، واندراجها من الآن فصاعداً في خيار ولي العهد محمد بن سلمان اعتبار مواجهة إيران أولوية سعودية. كيف نمت هذه الشراكة؟
«مرت خطط السلام العربية، من خطة الملك فهد عام ١٩٨٢ إلى خطة الملك عبدالله عام ٢٠٠٢، بمراحل عديدة، ونشأت على مبدأ مبادلة الأرض بالسلام، أي إقامة دولة فلسطينية في أراضي ١٩٦٧، مقابل علاقات دبلوماسية واعتراف عربي بإسرائيل. استمر ذلك طيلة ٣٥ عاماً، ولكن قرار مصر إعادة جزيرتَي تيران وصنافير إلى سيادة العربية السعودية، فرض التفاهم بين الأطراف الثلاثة: مصر، السعودية وإسرائيل».
ولكن لماذا إسرائيل؟ يقول أرونسون «لأنها انسحبت من الجزيرتين على قاعدة اتفاقية كامب ديفيد، عام ١٩٧٩، وتعهّدت مصر في إطار هذا الاتفاق بالحفاظ على المصالح الأمنية الإسرائيلية. وبالطبع، فإن التعهدات المصرية إزاء إسرائيل انتقلت إلى السعودية، بانتقال السيادة على الجزر إليها. في الواقع، أصبحت السعودية شريكاً استراتيجياً لإسرائيل ولمصر».
الفكرة الثانية المهمة، هي أن هذا الثمن الذي دفعته السعودية لم تتلقَّ مقابله شيئاً من إسرائيل. لكن هل سعت السعودية إلى ربط هذه الخطوة بمبادرة السلام العربية التي تشترط إقامة دولة فلسطينية لقاء حفاظ الأطراف العربية على المصالح الأمنية الإسرائيلية؟ يقول «نحن أمام قرار سعودي بالشراكة مع إسرائيل من دون أي إشارة إلى فلسطين. لم يروا أي ضرورة للربط بين مسألة الجزيرتين والقضية الفلسطينية، في تناقض واضح مع مبادرتهم للسلام، لقد أوهنوا أسس هذه المبادرة. منذ ذلك الحين، يقول (رئيس الحكومة الإسرائيلية) بنيامين نتنياهو لماذا عليّ أن أقدم تنازلات، إذا كانوا هم قد تخلّوا بأنفسهم عن بنود مبادرتهم».
هاجس العدو الإيراني، يدفع بابن سلمان إلى حرق المراحل في الملف الأكثر تعقيداً، أي القضية الفلسطينية، للحصول على شرعية وتغطية حاول ولي العهد السعودي انتزاعها من الرئيس الفلسطيني محمود عباس، ودفعه إلى القبول بدولة فلسطينية في غزة وبعض سيناء، من أين جاءت الفكرة؟
«فكرة إنشاء دولة فلسطينية في قطاع غزة، بعد ضمّ أراضٍ من سيناء إليها، هي فكرة إسرائيلية في الأساس، وكان أبرز مؤيديها عوزي آراد، مستشار الأمن القومي السابق الذي كان أول من كشف، في كانون الأول عام 2014، عن تطور العلاقات الإسرائيلية ــ السعودية والخليجية، وقد تبنّاها السعوديون اليوم، وقام ولي العهد السعودي محمد بن سلمان بعرضها على الرئيس محمود عباس، لقد شرح أحدهم لهم ذلك الأمر، ولم يكن ذلك الاقتراح من بنات أفكارهم».
هل مارس السعوديون ضغوطاً على محمود عباس ليقبل بدولة فلسطينية في غزة؟
«لا أعرف ما إذا كانوا قد ضغطوا عليه، لكنهم شرحوا له كيف باتوا يفكرون بالقضية الفلسطينية. أبلغه محمد بن سلمان أنهم يريدون حشد جميع حلفائهم ضد إيران، ومن بين حلفائنا فلسطين، وعليك أن تعمل كما نفكر».
إلى أي حدّ يستطيع السعوديون الذهاب في العلاقات مع إسرائيل، والتحالف علناً معها؟
يقول أرونسون إن «القرار اليوم بهذا الشأن في يد واحدة، هي يد محمد بن سلمان، أغلب الظن أنه لم يتسنَّ له الوقت الكافي، ولا يعرف ماذا يريد أن يفعل، فهو ليس إسكندر المقدوني الكبير. لا أطلق على ما يفعله عبارة الاستراتيجية، ولا أعرف ما إذا كان يملك استراتيجية ما. فعندما تحدث دونالد ترامب، للمرة الأولى، عن نقل السفارة الأميركية إلى القدس، أُرغِم السعوديون والمصريون على رفض ذلك، على الرغم من أن المصريين شركاء لإسرائيل في الحرب على الإرهاب في سيناء. نحن أمام مسار تقارب وتعاون، وهناك تبادل للمعلومات بين السعودية وإسرائيل منذ أعوام. هذا ليس جديداً. لكن أن تحاول السعودية إقناع إسرائيل بشن حرب ضد حزب الله أمر مضحك. برأي الإسرائيليين، أن السعودية تحتاج إليهم أكثر ممّا يحتاجون إليها، وأن إيران تهديد أكبر للسعودية لحكم الجوار ممّا هي تهديد لإسرائيل، وأن السعودية هي الطرف الأضعف في المواجهة».

مرتكزات إسرائيل الثلاثة

الراهن الأقرب في الحوار مع جيفري أرونسون، هو ما يبدو في سوريا انفلاتاً من قواعد الصراع، مع تكاثر اللاعبين فيها. وتؤخذ في الحسبان الغارات الإسرائيلية التي تحوّلت إلى إيقاع شبه يومي، من دون أن تكون حرباً. المعادلة التي تحكم هذا الصراع، تبدو مفهومة ضمنياً من جميع المشاركين فيها، وهي ليست سياسة حافة الهاوية، وإلا كان الجميع قد سقطوا فيها منذ سنوات، لولا وجود مرتكزات غير مُعلنة يُتقن الجميع احترامها. جيفري أرونسون يعرض وجهة النظر الإسرائيلية، التي استقاها من قيادات عسكرية وأمنية وسياسية في الكيان: «لإسرائيل ثلاثة مرتكزات للتعامل مع سوريا: فك الارتباط، قواعد اللعبة، وأضيف إليها مرتكز ثالث بعد الأزمة هو العلاقة مع روسيا. للسوريين والإسرائيليين علاقات قديمة تستند إلى اتفاق فكّ الارتباط عام ١٩٧٥، هذا الاتفاق كان فعّالاً بالنسبة إلى إسرائيل. وبالنسبة إليّ، فإن سوريا عدوّ بإمكان إسرائيل أن تعتمد عليه. فسوريا، منظوراً إليها من تل أبيب، دولة قوية لتحفظ السلام، لكنها ليست قوية بما يكفي لتغيير الأمر الواقع، أو قلب ميزان القوى لمصلحتها. هذه هي الميزة التي تحرص إسرائيل على إدامتها في المستقبل».
المرتكز الثاني، الذي لا يزال يتحكم بهذا الصراع من الخلف وهو عنصر آخر من المنظومة التي قامت بعد اتفاق فك الارتباط، هو ما سمي «قواعد اللعبة» التي فرضتها إسرائيل؟

سعى نتنياهو منذ كانون الأول ٢٠١٥ إلى إقامة تفاهم استراتيجي مع بوتين

يجيب أرونسون: «إن قواعد اللعبة هي أن يحاول أحد الأطراف المعادية لإسرائيل تغيير المعادلة في سوريا، وأن تقوم هي بالرد عليه وضربه، من دون أن تذهب المواجهة إلى حد الحرب، لأن الطرف الآخر لا يرد».
لكن هذه القاعدة لا تنطبق على الأطراف أنفسهم في لبنان؟
«نعم لأن إسرائيل تدرك تماماً أنها إذا قامت بضرب الحزب (حزب الله) في لبنان، فإنه لن يتردّد في الرد. أكثر المظاهر حضوراً لتلك القواعد هو العملية التي نفذتها إسرائيل ضد مفاعل دير الزور النووي، عام ٢٠٠٨. كان ذلك تعبيراً جلياً عن تصميم إسرائيل على منع سوريا من اكتساب قدرات نووية تفضي إلى تغيير المعادلة الاستراتيجية. لقد فهم السوريون ذلك، لكنهم حاولوا من جهتهم تغيير المعادلة لمصلحتهم. هذا النوع من العمليات ما دون الحرب خلق نوعاً من الاستقرار الشديد الهشاشة، لغياب اتفاق رسمي بين الأطراف المتصارعة، لكنه لا يزال صامداً في الظروف الحالية. هذا العنصر في المعادلة توسّع ليشمل إيران وحزب الله في سوريا. لقد قاموا هم أيضاً بزيادة قدراتهم التسليحية، واعترضت إسرائيل أيضاً على ذلك بالنار، إنها بيئة غير مستقرة بالتأكيد، لكننا لسنا في حرب».
إن عقيدة العمليات العسكرية الإسرائيلية المحدودة ما دون الحرب، أو بين حربين، بلور الإسرائيليون منها عقيدة رسمية لهم. كل طرف سيحاول تغيير قواعد اللعبة لمصلحته. فرضت إسرائيل قواعد اللعبة، وخصوصاً لمنع سوريا وحلفائها من مراكمة قدرات جديدة، وهي تتدخل على الدوام لمنعها من ذلك. إن العنصر الذي استجد مع الحرب السورية هو دخول موسكو في هذه الحرب، ونشر قواعد جوية وبحرية في حميميم وطرطوس.
وهنا، يشير أرونسون إلى أنه «لو نشر الروس طيارين لهم، ونظام دفاع جوي في سوريا الثمانينيات، لكانت إسرائيل سترى في ذلك إعلاناً للحرب عليها. لكنها اضطرت، اليوم، إلى ابتلاع التحدي الروسي الاستراتيجي. سعى بنيامين نتنياهو، منذ كانون الأول ٢٠١٥، إلى إقامة تفاهم استراتيجي مع (الرئيس الروسي) فلاديمير بوتين للحفاظ على مصالحه الحيوية، كما يفهمها نتنياهو، وتتضمن حق إسرائيل في مواصلة عمليات ما دون الحرب، من دون تدخل مضاد من قبل روسيا. لقد نجحت إسرائيل في تحويل تحدي وجود قوات روسية في سوريا إلى تفاهم استراتيجي، وهذا مكسب لها ستسعى للبناء عليه مستقبلاً. كل هذه العناصر لا بد من تحديثها على ضوء المستجدات الأخيرة. ستواصل إسرائيل عملياتها بموازاة جهود دبلوماسية، ودعائية، لإبقاء حزب الله وإيران تحت الضغط في الأمم المتحدة، وفي أروقة أخرى. الضغط الميداني يواكبه ضغط سياسي».