دخل وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، تاريخ الشرق الأوسط من الباب الأوسع: إنهاء الخلاف الممتد مع إيران لأكثر من عشرة أعوام، بما يخص برنامجها النووي بصفة خاصة، من دون أن يعني ذلك بالتأكيد انتهاء الصراع بين البلدين.
الأكيد أنّ معرفة مدى تأثير كيري في اتخاذ القرارات الحاسمة، في مسار المفاوضات مع إيران، لن يعرف اليوم ولا حتى على المدى القريب، لكن في المقابل فإنّ خلف هيلاري كلينتون، على رأس وزارة الخارجية الأميركية، منذ شباط 2013، هو بلا شك الدبلوماسي الأميركي الذي أجرى أكبر عدد من الاتصالات مع الإيرانيين (باستثناء مساعدته ويندي شيرمان). وكان منذ 2012 ضمن فريق الدبلوماسيين الذين قاموا بمشاورات سرية مع إيران في عمان حول إمكانية إطلاق مفاوضات بشأن ملفها النووي. ومنذ المصافحة التاريخية بين كيري ونظيره الإيراني، محمد جواد ظريف، في الأمم المتحدة في أيلول 2013، تعارف الوزيران جيداً بعد سلسلة لقاءات، حتى أنهما باتا يناديان بعضيهما البعض باسميهما؛ «جون» و»جواد».
الدبلوماسي الأميركي الذي كانت «ظروف نشأته تمهّد لمستقبل سياسي ما على الطريقة الأميركية: مدارس نخبوية لطبقة معينة من العائلات، صداقات مع أبناء ضبّاط وسياسيين ورجال أعمال بارزين، ومع صديقات من عائلات نافذة، والدٌ في السلك الدبلوماسي» (الأخبار عدد العدد ٢٢٠٦) لم يكن معروفاً لدى الرأي العام في الشرق الأوسط قبل 2013، برغم مواجهته جورج بوش الابن في انتخابات الرئاسة لعام 2004، وبرغم ترؤسه لجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس قبيل تسلمه منصب وزير الخارجية (وللإشارة هو أول من يتنقّل بين هذين المنصبين مباشرةً). ولعلّ المتابعين لسياسة الشرق الأوسط يذكرون زيارات كان قد أجراها، نهاية العقد الماضي، لدمشق حيث التقى الرئيس السوري، بشار الأسد، قبل أن يتحول إلى رأس حربة في الصراع الحالي.
سيسجَّل لكيري، يوماً، أنّ تسلمه وزارة الخارجية الأميركية تزامن مع تعقّد صراعات السياسة الدولية في الشرق الأوسط، كما في أوروبا حيث كان من بين أهم الأطراف المناوئة لسياسات «عودة روسيا» للتحرك ضمن مجال نفوذ الاتحاد السوفياتي سابقاً (شرقي أوروبا). أزمة أوكرانيا خير مثال على ذلك، برغم كل ما يحكى عن أنّ كيري كان يواجه في خلال هذه الأزمة «صقوراً» ما زالت تتمتع بالنفوذ في الخارجية الأميركية.
المناوشات مع روسيا في بعض المجالات الحيوية، تحولت إلى تعاون محدد الأطر معها في ملف الأزمة السورية (قضية المخزون الكيميائي السوري في صيف 2013)، في حراك واجهته في حينه كل من تركيا والسعودية، بشكل رئيس. وهو مشهد يُقال إنه راكم أيضاً عناصر الخلاف بين «دول الخليج» والإدارة الأميركية على خلفية ما حكي عن إعادة تعريف واشنطن ــ أوباما لدورها الشرق أوسطي، والتي يبدو أنها خلصت إلى الاتفاق الحالي.
في مقابل ذاك التعاون المحدد الأطر، فإنّ الجندي الأميركي في حرب فيتنام، والمنضم لاحقاً إلى حركة «مقاتلي حرب فييتنام المناهضين للحرب» (الأخبار عدد العدد ٢٢٠٦)، لا بد وأن يشار إلى دوره مع وزير الخارجية السعودي السابق، سعود الفيصل، بشأن تثبيت أسس الحرب المزعومة على الإرهاب بين الأراضي العراقية والسورية، فاتحاً المجال أمام «دول الخليج» لأداء دور عسكري مباشر غير معهود في دول المشرق العربي. أدى كيري دوراً مهماً في هذا الصدد، في وقت لم ينجح فيه ــ على ما يظهر ــ بالإحاطة بأدوات «العودة التركية» إلى الشرق الأوسط.
في الشرق الأوسط أيضاً، ترافق المشهد مع صياغة كيري للتماهي بين موقف إدارته والموقف السعودي بشأن مصر في عهد عبد الفتاح السيسي، وسط «إخفاق» في العمل على ملف الصراع العربي الإسرائيلي، وصل إلى حد ما روّج عن نشوب خلافات كبيرة بينه وبين حكومة دولة الاحتلال.
عموماً، نجح كيري ــ هاوي «سياسات الجولات المكوكية» ــ في عدد من الملفات، وأثبت أنه «من المدرسة القديمة، ويرى أن دور بلاده يتمثل في كونها قوة مهيمنة، ووسيطاً عالمياً، وفي بعض الأحيان أيضاً تكون شرطياً» (دير شبيغل)، لكن يبدو جلياً أنّ «دخوله» طهران لن يكتب لدبلوماسيته.
(الأخبار)