إسطنبول | قبل أحداث «الربيع العربي»، كان للرئيس التركي رجب طيب أردوغان شهرةٌ واسعة في جميع أنحاء العالم. كانت علاقات تركيا جيّدة بالجميع، بما فيهم إسرائيل، أو على الأقل إيجابية بسبب سياسات حزب «العدالة والتنمية» الحاكم المبنية على أساس الانفتاح على الجميع، وخصوصاً دول الجوار التي قال وزير الخارجية آنذاك أحمد داوود أوغلو إن هدفه هو «تصفير المشاكل» معها.
ثم جاءت موجة «الربيع العربي» لتقلب الصورة تماماً، إذ لم يعد لتركيا أيّ صديق في المنطقة سوى قطر، وربما بعض الدول الأفريقية مثل الصومال. ولولا الاتفاق التركي مع روسيا وإيران في ما يتعلق بسوريا، لما كان بإمكاننا الآن الحديث عن أيّ علاقات إيجابية لتركيا مع أيّ دولة في العالم. فقد وصلت علاقات أنقرة مع واشنطن، حليفتها الاستراتيجية، إلى حافة الانهيار لثلاثة أسباب رئيسية، وهي:
أولاً، رفض واشنطن تسليم الداعية فتح الله غولن لأنقرة. ثانياً، رفض واشنطن كذلك تسليم رجل الأعمال التركي/ الإيراني المتهم بقضايا فساد خطيرة طالت وزراء وعائلة الرئيس أردوغان، ويقدّر البعض حجمها بعشرات المليارات من الدولارات.
ثالثاً، دعم واشنطن لـ«وحدات حماية الشعب» الكردية في سوريا.
ويمكن أن نضيف على ذلك التقارب التركي مع موسكو وطهران في موضوع سوريا، وبالتالي مساعي أنقرة لشراء صواريخ «أس ٤٠٠»، بل وحتى «أس ٥٠٠»، وفقاً لما قال أردوغان.
وجاءت أزمة التأشيرات بين الدولتين لتزيد في الطين بلة، بعدما اعتقلت سلطات الأمن التركي موظفاً تركياً يعمل في القنصلية الأميركية في اسطنبول بعدما اتهمته أنقرة بالتجسس. وقد سبق هذا التوتر التركي مع الولايات المتحدة فتور وتوتر جديّ مع العديد من العواصم الأوروبية وفي مقدمتها برلين، إذ لم تسمح تلك الدول لأردوغان بمخاطبة الجالية التركية فيها، متهمةً أنقرة باستفزاز المشاعر القومية والدينية لدى هؤلاء.
إقليمياً، ومع استمرار الخصومة مع مصر بعد إطاحة الجيش حكم «الإخوان المسلمين»، تحولت السعودية والبحرين والإمارات إلى الخندق المعادي لتركيا بسبب دعم الأخيرة لقطر. وأصبحت اسطنبول مركزاً للتنسيق المشترك لجميع الدول والمنظمات والقوى الإقليمية والدولية التي كانت تسعى لإطاحة الرئيس السوري بشار الاسد الذي بقي، فيما غابت جميع الأطراف الأخرى، بما فيها الفصائل المسلحة التي كانت تدعمها الدول والمنظمات المذكورة، وتحت إشراف السفير الأميركي السابق روبرت فورد الذي اعترف أكثر من مرة بفشله في مشروعه للتخلص من الرئيس الأسد. وكان الأخير الهدف الأساسي لأردوغان، والذي أراد أن يحقق عبره كل مخططاته ومشاريعه لإيصال «الإخوان» إلى السلطة في دول المنطقة.
عاد أردوغان إلى النقطة الصفر؛ فلولا تدخله في سوريا بالشكل المعروف، لما كان الحديث الآن عن مجمل الأمور التي تحدثنا عنها أعلاه، بما في ذلك استفتاء مسعود البرزاني الذي استغل نتائج الأزمة السورية إقليمياً ودولياً.

لولا استعانة أنقرة بعدوّها التاريخي روسيا لاستمر تورّطها في سوريا

فلولا استعانة أنقرة بعدوّها التاريخي روسيا لاستمر تورّطها في سوريا وربما بمخاطر أكبر. ويسعى أردوغان للحدّ من هذه المخاطر، وهذه المرة عن طريق «العدو التقليدي»، قومياً وطائفياً، أي إيران. وربما ما أسهم في هذه الاستعانة أيضاً، هو الوضع في العراق الذي اضطر أردوغان إلى مصالحته هو الآخر، بعد تهديدات البرزاني الذي قال عنه أردوغان «إنه خدعه وتحالف مع الموساد». ويجري كل ذلك في الوقت الذي يراهن فيه البعض على مستقبل هذه المعطيات سلباً أو إيجاباً، بحسب التطورات الإقليمية والدولية، ذلك إذا تجاهلنا الأزمات الخطيرة، سياسياً وأمنياً واقتصادياً، التي تواجه أردوغان داخلياً. فعلى المستوى المحلي، لم يعد بجانب أردوغان أيّ من أصدقائه الذين بدأ معهم مسيرة «العدالة والتنمية» عام ٢٠٠٢، وفي مقدمة هؤلاء عبدالله غول الذي يعرف الجميع أنه يعترض على مجمل سياسات أردوغان الخارجية، بل وحتى الداخلية، بسبب إصرار الرئيس على أسلمة الدولة والمضيّ في حكمه الانفرادي.
وتأتي سياسات أردوغان المتناقضة لتزيد من حماسة الرهانات المذكورة؛ فقد اتهم في زيارته قبل أيّام لأوكرانيا، روسيا باحتلال القرم، كما فرض شروطاً مجحفة تساعده لإلغاء اتفاقية «أس ٤٠٠». ولَم يتردّد في زيارة صربيا ويوقّع معها على اتفاقيات مهمة، ناسياً أنها هي التي قتلت ٢٠٠ ألف من مسلمي البوسنة، أو على الأقل كانت السبب في مأساة شعب البوسنة وتمزيق يوغسلافيا عموماً.
باختصار، إن عزلة أردوغان كان سببها الرئيسي سياساته الخارجية بسبب تدخله في سوريا بداية عام ٢٠١١، وهو ما كان له نتائج وخيمة يعاني وسيعاني منها الرئيس التركي، إذا لم يفكر في العودة إلى ما قبل ٢٠١١، مهما كلّفه ذلك من تعاون استراتيجي مع روسيا وايران والعراق، وهي جميعاً تدعم الرئيس الأسد الذي من دون المصالحة معه لن يتسنّى لأردوغان التخلص من عزلته الداخلية والخارجية. إنهاء هذه العزلة يتطلب منه قبل كل شيء حسم مشكلة إدلب والوجود التركي من جرابلس إلى أعزاز؛ فمن دون ضمان وحدة الدولة السورية لن يضمن أردوغان وحدة تركيا واستقرارها ولا مستقبله في انتخابات ٢٠١٩.