غالباً ما تقاس المسافة الزمنية بين تاريخين بالسنوات العادية. ولكنّ المسافة الفاصلة بين زمن تشي غيفارا وزمننا تقاس بالسنوات الضوئية. خمسينية استشهاد «الكوماندانتي» على أيدي عملاء الاستخبارات الأميركية، ربما تحتمل أن يُنظر إليها اليوم انطلاقاً من كونها محطة لاستعادة بانورامية لما آلت إليه تجارب النضال ضد «الامبريالية».ليس الأمر، بطبيعة الحال، مرتبطاً بعملية القتل القذرة التي ارتكبت بحق «تشي»، ولا في فقدان حركة التحرّر الوطني الشامل لمثلها الأممي الأعلى، بل في ما شهدته حركة التحرّر نفسها من تحوّلات، جعلت الجريمة مزدوجة: واحدة من تنفيذ عملاء الأميركيين، والثانية اقترفت بأيدي «الثوار» أنفسهم.
لربما كانت الجريمة الثانية، التي ارتكبها «رفاق» غيفارا، أخطر من عملية القتل الأساسية التي نفذت ببندقية أعدائه؛ فالجريمة الأولى كرّسته رمزاً عالمياً للحرّية التي جال العالم من أجلها، ثائراً مسلّحاً، أو سياسياً ببزة ثائر، وجعلت آلاف الثوريين يسيرون على خطاه، من الأرجنتين إلى المكسيك، فكوبا والكونغو، وصولاً إلى أدغال بوليفيا.

وأمّا الثانية، فهي محاولات اغتيال للرمز نفسه، على نحو يتجاوز المحاولات «الامبريالية» في استخدام صورته وسيلة للدعاية الاستهلاكية، على علبة سجائر، أو زجاجة «ويسكي»... أو ملابس داخلية!
محاولة الاغتيال الثانية تكمن في ما آل إليه «الرفاق» - أو بعضهم منعاً للتعميم - حين تحوّل نضالهم إلى انتهازية وعمالة... أو في أفضل الأحوال استكانة، جعلت من المتغيّرات المزلزلة التي شهدها العالم خلال العقود الثلاثة الماضية مجرّد شمّاعة يعلّق عليها الفشل والخيبة الذاتية.
لم يعد هؤلاء مجرّد مناضلي «آخر زمن في العوّامات»، كما كتب الشاعر الراحل أحمد فؤاد نجم، حين رثى غيفارا قبل خمسين عاماً، بل أصبحوا «رفاقاً» لاهثين على أبواب السفارات، أو مرتدّين من النضال من أجل «الوطن أو الموت» إلى أشباه رجال متمترسين خلف أكثر البنى الخادمة لـ«الإمبرالية» تخلّفاً، طائفة أو قبيلة أو منظمة غير حكومية... إلى آخر تلك المسمّيات المتجدّدة.
بذلك، تنافس «الرفاق» وأعداؤهم على اغتيال الرمز، بأشكال شتّى. ومع ذلك، فإنّ نجم «تشي» لم ينطفئ، لا بل ازداد توهّجاً، حين جعله ملايين الفقراء، من أبناء جلدته في أميركا اللاتينية، نقطة ارتكاز في مسيرتهم الطويلة والشاقة نحو التغيير.
بالأمس، توهّج نجم غيفارا مجدداً في أميركا اللاتينية، من كوبا التي احتضنته ثائراً، إلى بوليفيا إلى احتضنته شهيداً.
صحيح أنّ المكانين اللذين ارتبطا بـ«تشي» لم يعودا كما كانا عليه يوم احتضنا «تشي» شاهراً بندقيته في وجه «الإمبريالية»، إلا أن شعبيهما ما زالا حريصين على تحصين الأيقونة النضالية من العبث، وحماية الرمز الثوري من محاولات الاغتيال.
هكذا، شكّلت الذكرى الخمسون لاستشهاد «تشي» مناسبة للتأكيد على أن وجهة النضال في أميركا اللاتينية لم تتبدّل، رغم تبدّل الأزمنة، والذي عكسه رمزياً إحياء الذكرى في كوبا، بغياب القائد فيدل كاسترو، الذي رحل قبل عام، وعملياً في تخلي مجموعة «فارك»، آخر المنظمات المسلحة في «القارة الحمراء»، عن سلاحها، لمصلحة اتفاق سلام مع الحكومة الكولومبية.
في سانتا كلارا، المدينة الكوبية التي اتخذت من ذلك الشاب الأرجنتيني ابناً لها بالتبنّي، كان حضور الرئيس الكوبي راوول كاسترو بمثابة إشارة انطلاق لنائبه وخلفه المحتمل ميغيل دياز - كانيل، لتجديد الموقف من «الامبريالية» التي «تزرع اليوم الاضطرابات في فنزويلا».

وعلى مسمع من عشرات الآلاف، في سانتا كلارا، توجّه دياز - كانيل إلى دونالد ترامب بالقول إن كوبا «لن تتفاوض على مبادئها، وترفض الخضوع للابتزاز»، في ردّ مباشر على تأكيد الرئيس الأميركي، يوم الجمعة الماضي، أنّه لن يرفع أيّاً من العقوبات على الجزيرة الشيوعية، طالما لم تحلّ «الحريّة السياسية التامة».
وأمّا بوليفيا، التي ثأر شعبها لـ«تشي» قبل 12 عاماً، بانتخابه يسارياً قادماً من مآسي السكان الأصليين لرئاسة هذا البلد الذي تفرّق فيه دم غيفارا بين عملاء «الامبريالية»، فستحيي الذكرى الخمسين، اليوم، على نحو يتجاوز رمزية الاحتفال في سانتا كلارا نفسها.
ولكنّ إيفو موراليس استبق فعاليات الذكرى بتوجيه اتهام جديد للاستخبارات الأميركية «باضطهاد وتعذيب واغتيال» غيفارا، مع نهاية الأشهر الأحد عشر للحركة الثورية التي قادها في بوليفيا، وذلك في تدوينة مقتضبة تعيد التذكير بأنّ التفاصيل المرتبطة بالجريمة القذرة لم تكتب كلّها بعد. ولعلّ ما كتبه الرئيس البوليفي، الذي يتشارك مع «الكوماندانتي» الكثير من القواسم الثورية - على حدّ وصف الناشطة «الغيفارية» ماريانيلا برادا - يتقاطع إلى حدّ كبير مع ما قاله خوان مارتن غيفارا، صاحب كتاب «شقيقي تشي»، الذي دحض مزاعم الجنود البوليفيين الذين قالوا إنّ غيفارا قتل وهو يحارب، فقد «أعدمه الجيش البوليفي، والتقطوا صوراً له كما لو كان غنيمة».
لا بل إن شقيق غيفارا ذهب أبعد من ذلك حين أشار إلى أن «الحزب الشيوعي خانه على الأرجح»، وأنّ «الاتحاد السوفياتي كان له دور كبير جداً»، خصوصاً أن جهازي الاستخبارات الرئيسيين في تلك الفترة، أي «كا جي بي» و«سي آي إيه»، كانا متفقين على نقطة واحدة، بحسب خوان مارتن، وهي «إفشال الثورة الأميركية اللاتينية».
لا شكّ في أن التاريخ سيكشف الكثير من الحقائق المرتبطة بجريمة قتل تشي غيفارا، وهو ما يشكّل تحدّياً للأكاديميين والمؤرخين. ولكن التحدّي الأهم يبقى على عاتق آخرين، ويتمثل في الحفاظ على وهج الرمز الثوري لـ«تشي»، بما يتجاوز مجرّد الحفاظ على الأيقونة، ليتعدّاه إلى تحقيق ما استشهد «الكوماندانتي» من أجله، وهو الحرية لأميركا اللاتينية... والمضيّ دائماً نحو النصر.