أزمة حقيقية تعيشها إسبانيا ببدء المعركة بين الانفصاليين في إقليم كاتالونيا والحكومة المركزية، ومع اتخاذ الحكومة الكاتالونية قراراً بتنظيم استفتاء لتقرير المصير بعد ثلاثة أسابيع، في تحدّ لمدريد، فيما اختار رئيس الحكومة الإسبانية، ماريانو راخوي، معركة القضاء بدل السياسة لمواجهة الانفصاليين، مدعوماً من بعض الأحزاب السياسية في البلاد.
والمعركة التي تبدو سياسية من الخارج تضع البلاد في الواقع أمام خطر أزمة اجتماعية مع ارتفاع منسوب خطاب التحدي بين المؤيدين والمناهضين للانفصال، واختيار الانفصاليين عدم الامتثال للدستور الإسباني.
وفي ساعات قليلة، تبنى البرلمان الكاتالوني، مساء أول من أمس، قانوناً ينص على تنظيم استفتاء لتقرير المصير، استتبع بتوقيع الحكومة الكاتالونية مرسوم الدعوة للاستفتاء في الأول من تشرين الأول، ردت عليه الحكومة الإسبانية بإطلاق ملاحقات قضائية بحق أعضاء الحكومة الانفصالية. القانون الذي أُقرّ بغالبية 72 صوتاً وامتناع 11، أطلق رغم انسحاب نواب المعارضة الذين اعتبروا التصويت غير قانوني.
ثقة الانفصاليين بأحقية مطلبهم عبر إرسائهم «نظاماً قضائياً استثنائياً لتنظيم وضمان استفتاء تقرير المصير في كاتالونيا»، قابلها تصريح حاسم من رئيس الحكومة بقوله، أمس، إنه «لن يكون هناك استفتاء لتقرير المصير»، معتبراً أن الدعوة له «تشكّل حركة عصيان غير مقبولة على المؤسسات الديموقراطية».
واختارت مدريد معركة القضاء بلجوء الحكومة إلى المحكمة الدستورية لإلغاء قانون تنظيم الاستفتاء، وفق راخوي الذي أوضح أنه سيتم إبلاغ رؤساء البلديات في هذا الإقليم «بواجبهم في منع أو الحؤول دون» إجرائه.

بدأت الأحزاب
الإسبانية تحشد لمواجهة «التحدي الانفصالي»



ولمزيد من الضغط على الانفصاليين، أعلنت النيابة العامة الإسبانية، أمس، أنها ستباشر ملاحقات قضائية بحق قادة الإقليم، مضيفة أنه ستتم مصادرة معدات انتخابية جهزت لهذا الاستفتاء. وتستهدف الملاحقات مسؤولي برلمان كاتولونيا وأعضاء حكومتها. ووفق النيابة العامة، ستصادر الشرطة القضائية الأغراض أو الأدوات المخصصة للإعداد أو لتنظيم الاستفتاء «غير القانوني».
وفي الواقع، فإن طريقة إقرار تنظيم الاستفتاء وطرحه تحت عنوان «تقرير المصير» تطرح نقاط استفهام قانونية عدة. ووفق زافييه فيدال - فولش في صحيفة «إل بايس»، فإن قانون تنظيم الاستفتاء فيه خرق للقانون الدولي ولقرارات الأمم المتحدة.
ومن ناحية، تسمح قرارات الأمم المتحدة بحق تقرير المصير والانفصال للبلدان الخاضعة لاستعمار خارجي، وهو ما لا ينطبق على حالة كاتالونيا التي يسعى الانفصاليون فيها إلى الرجوع إلى هذا المبدأ لجعل استفتائهم ونتائجه قابلة للتطبيق. ومن ناحية ثانية، يسعى الانفصاليون، لدعم قرارهم، إلى الرجوع إلى قرار محكمة العدل في لاهاي التي أيدت قرار كوسوفو الأحادي الجانب بالاستقلال وذلك بناءً على أن الدستور الاتحادي الصربي كان يسمح بذلك، وهو ما لا ينطبق على الدستور الإسباني.
سياسياً، بدأت الأحزاب الإسبانية تحشد لمواجهة «التحدي الانفصالي» في كاتالونيا وفق «إل بايس». وبالرغم من خلافاتها، إلا أن الأحزاب الأساسية في البلاد وحدت مواقفها لحماية «حكم القانون»، فقد نجح رئيس الحكومة وزعيم «الحزب الشعبي» المحافظ في جمع قائدَي حزبين معارضين، في مؤشر على إدراكهم خطورة التحدي القادم من كاتالونيا الذي يحكمه الانفصاليون منذ عام 2015. وأكد رئيس حزب «سيودادانوس»، ألبيرتو ريفييرا، دعمه «القوي» لراخوي، فيما اتفق رئيس «الحزب الاشتراكي» بيدرو سانشيز معهما على أن الاستفتاء ينظّم على أسس غير قانونية ويخرق القانونين الإسباني والدولي. لكن الحزب اليساري «بوديموس» لم ينضم إلى الأحزاب الأخرى في هذا التحالف الطارئ، إذ يرفض اعتماد راخوي على «القضاة والمحاكم للتهرب من السبل السياسية»، في إشارة إلى الطعن أمام المحكمة الدستورية.
الوحدة في مدريد يقابلها تشكيك في برشلونة، إذ أعلن الفرع الكاتالوني من «الحزب الاشتراكي»، أمس، رفضه دعم مبادرة رئيسة «سيودادانوس» في كاتالونيا، إنيس أريماداس، التي تريد إطلاق تصويت لسحب الثقة من الحكومة الكاتالونية. واعتبر الاشتراكيون في كاتالونيا أن اقتراح أريماداس لا يشكل حلاً مناسباً، بل يجب اللجوء إلى سبل أخرى لتفادي «الصراع الاجتماعي والسياسي ومخاطره». ولم تمنع الضغوط القادمة من داخل كاتالونيا ومن مدريد المتحدث باسم الحكومة الكاتالونية، جوردي تورول من التأكيد صباح أمس أنه رغم كل الظروف «سننظم الاستفتاء لأن هذا عقدنا مع مواطني كاتالونيا».
والمواجهة الحالية في إسبانيا تضع البلاد أمام تساؤلات قومية كبرى، إذ رأى الباحث السياسي خوسيه إغناسيو توريبلانكا في مقال أن فكرة «القومية الكاتالونية» هي في طريقها نحو الإخفاق، مثلما أخفقت القومية الإسبانية المبنية على أسس القومية القشتالية من جهة، وقومية بلاد الباسك من جهة ثانية، في الماضي.
ورأى أن الأشكال الثلاثة المذكورة من القومية وقعت في الأخطاء عينها في محاولتها لإثبات صحة قضيتها، مثل «البناء على سرديات تاريخية مجتزأة، الوقوع في أيدي أعضائها الأكثر أصولية وتعصباً، نقص إجراء مراجعات فعالة مع المجتمع المدني، ومن خلال تلاعبهم في المؤسسات لتحقيق أهدافهم، خلقوا مشاريع مؤمنة بتفوق المجموعة بناءً على سموّ ثقافي وأخلاقي مفترض».
من هنا، تابع توريبلانكا أن تلك الأخطاء أدت إلى سلوكيات عنفية وغير تسامحية، لا تقبل بالتعددية، مثل نظام فرانكو الذي اعتمد الإيديولوجية القومية القشتالية، أي الكاثوليكية القومية، وحاول فرضها كعقيدة ثقافية ولغوية على جميع الإسبان، وهو ما أدى إلى انتهاء ذلك النظام وانتفاء أفكاره. ورغم نجاح القومية الكاتالونية في إنشاء نموذج اقتصادي واجتماعي ناجح، وفق توريبلانكا، وتمكنها من إدماج جميع عناصر المجتمع، إلا أن «قصة النجاح» تلك تنتهي مع بدء الطموح في إنشاء «أمة سياسية»، وذلك لأن المؤمنين بأحقية «القضية الكاتالونية» وقعوا في خطأ تبرير الوسائل للوصول إلى ذلك «الهدف الأسمى»، مثلما برر قوميّو الباسك «الأعمال الإرهابية» لتحقيق مطالبهم.
(الأخبار)