كان للأحداث التي وقعت أخيراً في مدينة تشارلوتسفيل بولاية فرجينيا اﻷميركية صدى إعلامي واسع، فهذه الحلقة الجديدة من العنف تعبر عن صراعات إيديولوجية وتفاقم التناقضات الداخلية للمجتمع اﻷميركي.توثق الصور الصادمة للفيلم الوثائقي «رايس أند تيرور» (العرق والرعب)، المنتج من طرف «فايس نيوز توداي»، والمشاهد «لأكثر من 20 مليون مرة على فايسبوك ومليوني مرة على اليوتيوب»، أهم اللقطات التي طبعت الأيام الثلاثة لهذه المواجهات بين مجموعات صغيرة من اليمين المتطرف ومناضلين مناهضين للفاشية.

وزيادة على أثرها العاطفي، فهي تلفت الانتباه إلى تطبيع الخطاب العنصري على الساحة السياسية وزيادة تطرف التيار «الوطني اﻷبيض» في الولايات المتحدة.
تاريخياً، كانت العنصرية منذ البداية تمثل البعد الإيديولوجي في البنية السلطوية للأمة اﻷميركية، حيث بنت الجماعة المهيمنة المشكلة من البيض اﻷنكلو ــ ساكسون البروتستانت الذين كانوا رواد الاستيطان نظاماً قمعياً موجهاً ضد السكان اﻷصليين واﻷميركيين من أصل أفريقي، وذلك باسم تفوّق العرق اﻷبيض. ولكن الجديد في اﻷمر منذ مطلع اﻷلفية الجديدة هو التجند السياسي واﻹيديولوجي للجماعات اليمينية المتطرفة الصغيرة بهدف «الدفاع عن مصالح الشعب اﻷبيض في أميركا» في سياق اﻷزمة التي يعيشها النظام الرأسمالي اﻷميركي.
تشكّل هذه الوضعية أرضاً خصبة لزرع فكرة «الخطر الحضاري» (خطر يزعم أن الجماعات اﻹثنية والثقافية «السفلى» تشكله على حضارة «العرق المتفوق») لدى بعض شرائح الطبقة الوسطى التي تبقى الطبقة اﻷكثر تمثيلاً من حيث العدد للأميركيين ذوي البشرة البيضاء والتي تعيش بدورها تبعات اﻷزمة الاقتصادية الخانقة. وينبني هذا الخطاب على نظرية «الاستبدال الكبير للبيض» بالأجانب، والتي استطاعت الى حد ما أن تلقى رواجاً لدى بعض العمال والشرائح البيضاء للطبقة المتوسطة.
ليست هذه اﻹيديولوجيا العنصرية إلا صدى لنظريات أوجدتها النخبة الفكرية اﻷميركية. في كتابه «من نحن؟ تحديات الهوية الوطنية اﻷميركية» (2004)، يحلل صامويل هانتينغتون، وهو أحد أكبر المنظرين للسياسة اﻷميركية، اﻷسس التاريخية لنموذج الديموقراطية الليبرالية اﻷميركية والتي ينسبها للثقافة الخارقة للعادة للأميركيين البيض اﻷنكلو ــ ساكسون البروتستانت، أي الثقافة المسيحية البروتستانتية. ووفقاً له، إنّ تفوّق النموذج السياسي اﻷميركي مهدد بخطر الهجرة وقدوم سكان جدد لا يملكون أي ثقافة ديموقراطية برغم حسهم الرأسمالي الكبير. وقد تم عرض القراءات المثيرة للجدل لهذا الكاتب بشأن طبيعة النظام الديموقراطي في مؤلف بعنوان «أزمة الديموقراطية»، نشر سنة 1975 وأصبح بمثابة بيان للهيئة الثلاثية، وهي مجموعة تفكير للنخبة الفكرية الدولية. إحدى اﻷفكار اﻷساسية في هذا الكتاب هي أنّ الديموقراطية غير قابلة للتطبيق في كل البلدان، ﻷن بعض الثقافات ليس لديها الاستعداد الكافي لذلك. في باطن اﻷمر، ليست هذه النظرة الثقافاتية إلا وجهاً آخر لعنصرية كانت تدّعي في القرن التاسع عشر والنصف اﻷول من القرن العشرين وجود فوارق بيولوجية تمنع بعض الشعوب من التحضر.
خلافاً للمظاهر الخادعة، تشاطر النخبة وشرائح واسعة من المجتمع اﻷميركي هذه اﻷفكار، لكن التطبيع العلني للتعصب العنصري يرتبط باستراتيجية المجموعات اليمينية المتطرفة التي ترمي الى الاستفادة من سياق اﻷزمة الاقتصادية والظلم الاجتماعي لكسب تعاطف الطبقة المتوسطة. فهذه اﻷخيرة حساسة جداً تجاه الخطاب العنصري لكون الأزمة الاقتصادية أثرت بشكل كبير في مكانتها الاجتماعية، بل وتهدد وجودها. وبالفعل، ففي العشريات اﻷخيرة، كان اﻷميركي المتوسط هو الخاسر اﻷكبر في التحولات التي عرفتها الرأسمالية النيوليبرالية في بلده. فعمله الذي كان في الماضي يحتاج الى مؤهلات، مهدد بالمكننة وخروج المصانع بحثاً عن يد عاملة أرخص. وبالإضافة الى ذلك، صاحب هذا النزول الاجتماعي للطبقة المتوسطة ذوبان الثقافة اﻷميركية التقليدية في النموذج المتعدد الثقافات، وهو ما تراه اﻷوساط المحافظة كهزيمة ثقافية سوف تؤدي إلى فقدان القيم المؤسسة للأمة اﻷميركية.
وتؤكد دراستان إحصائيتان كبيرتان، نشرتا في أيار/ مايو 2016 وآذار/ مارس 2017، هذا الواقع الجديد للأغلبية ذات البشرة البيضاء في الولايات المتحدة. تظهر الدراسة اﻷولى (المنشورة من طرف «بيو ريسورتش») حول «229 منطقة حضرية كبيرة» أنه في تسعة أعشار هذه المناطق انخفضت نسبة السكان الحاصلين على مدخول يمكّن من تصنيفهم ضمن فئة «الطبقة الوسطى»، بينما ارتفعت نسبتا الطبقتين اﻷخريين، الكادحة والميسورة. «نسبة اﻷميركيين من الطبقة الوسطى تكون قد مرت من 55 في المئة سنة 2000 إلى 51 في المئة في 2014، بل وانخفضت بعشر نقاط منذ 1971… وإن الطبقة الوسطى في الولايات المتحدة بصدد النزول تحت عتبة الـ 50 في المئة". أما الدراسة الثانية لعلماء اقتصاد من «جامعة برينستون» بعنوان «الموت من اليأس»، فجاءت أكثر إنذاراً بالخطر وتظهر وجود زيادة نوعية في نسبة الوفيات لدى الأميركيين ذوي البشرة البيضاء المنتمين إلى الطبقة المتوسطة، بسبب الظروف الاجتماعية والتدهور الكارثي لوضعية «الاقتصاد الحقيقي» في البلاد.
إذاً، أصبحت هذه الطبقة «اليائسة» تدريجياً الهدف المفضل للمجموعات التي تركب موجة «أثننة» العلاقات الاجتماعية والتنديد بما تسميه «استبدالاً للبيض بالعمال اﻷجانب». والساحة السياسية اﻷميركية اليمينية المتطرفة مفتتة وغير متجانسة، بحيث تجمع أكثر من 200 جماعة باختلاف أحجامها، وتعكس تنوعاً إيديولوجيا كبيراً يمتد من الفاشيين والنازيين الجدد الى «الرجعيين الجدد»، مروراً بالوطنيين البيض التقليديين الممثلين بالبديل اليميني، وهي منظمة رأت النور في نهاية العشرية السابقة وتدعو الى دور أكبر للدولة في المجال الاقتصادي، لكنها تستعمل نفس الإيديولوجيا العنصرية. وانطلاقاً من مبدأ سموّ ما يسمى العرق اﻷبيض الذي تؤمن به، فإن هدف هذه المنظمة التي تُعتبر من بين اﻷكثر تأثيراً وحضوراً إعلامياً بين الجماعات اليمينية المتطرفة هو إعادة تأسيس الدولة على أساس إثني، وهو ما يجب، وفقها، أن يسبقه «تطهير عرقي سلمي» يتم عن طريق طرد المهاجرين. في أبجديات هذه الجماعة، إنّ «أميركا ليست أمة للمهاجرين، بل نحن (أميركا) أمة مستوطنين، اختاروا بعد ذلك استقبال بعض المهاجرين، ثم عدم استقبالهم، وبإمكاننا اختيار فتح أو غلق أبوابنا بكل سيادية».
بواسطة عملية إيديولوجية تقلب الحقائق، فإن مثل هذه الجماعات تخلط بين اﻷسباب والنتائج وتجعل المسألة العرقية وراء تدهور وضعية الطبقة الوسطى البيضاء. تظهر هذه الحركات كالبديل اليميني، والتي تبدو كعارض من عوارض تدني وضعية اﻹنسان اﻷبيض المتوسط، تعلقاً شديداً بأسطورة الحضارة البيضاء المسيحية المهددة بوجود المهاجرين. رغم أن الحقيقة عكس ذلك تماماً، فالتهديد الحقيقي يجب البحث عنه في ميكانيزمات الرأسمالية التي فتحت أبواب الهجرة واستغلال (وحتى استعباد) المهاجرين بأبشع الطرق، بحثاً عن يد عاملة أرخص.
وقد أدى التغير العميق الذي شهده المجتمع اﻷميركي، إضافة الى اﻷزمة الاقتصادية والاجتماعية، إلى رد فعل كلاسيكي: محاولة تعويض الامتيازات المادية والوضع الاجتماعي التي يفقدها العامل ذو البشرة البيضاء بإعادة اعتبار لا يمكن أن تكون إلا رمزية لتفوقه المزعوم على زملائه من أصول أخرى، ﻷن التفوق الحقيقي بيد الطبقة المهيمنة التي تستغله واﻵخرين على حد سواء.
تبقى المسألة الشائكة التي تطرح بنفسها بإلحاح اﻵن هي معرفة ما إذا كان بمقدور النظام السياسي والاقتصادي معالجة النزعات «العرقية» وإيجاد الحل المطلوب للفوضى السياسية التي بدأت تظهر ملامح طول أمدها. هل بإمكان الرئيس دونالد ترامب الاستمرار في لعب بطاقة توظيف المسائل العرقية لزيادة شعبيته وشرعيته؟