باريس | تجدّدت المخاوف الأمنية في فرنسا، تحسّباً لموجات تهديد إرهابية جديدة يخُشى أن تتخذ طابعاً أوروبياً عابراً للحدود. وقد عادت هذه المخاوف إلى الواجهة على إثر عملية الدهس التي حدثت في برشلونة، الخميس الماضي، إذ بيّنت التحقيقات أن ستة أعضاء على الأقل من الشبكة التي نفذت تلك الهجمة اجتازت الحدود نحو فرنسا، وتوارت عن الأنظار، من دون أن تستطيع السلطات الاسبانية ولا الفرنسية اعتراضها أو تقفّي آثارها.
ثم كشفت التحقيقات لاحقاً أن إحدى السيارات التي استُعملت في هجوم برشلونة رصدها أحد رادارات السير في ضواحي باريس، قبل أقل من أسبوع على الواقعة.
في ظل هذه الأجواء المتوترة، ارتفعت أصوات العديد من الخبراء لدقّ ناقوس الخطر، تحذيراً من القصور المتفاقم في استراتيجية مكافحة الإرهاب المتّبعة في فرنسا، وبالأخص منذ وصول إيمانويل ماكرون الى الحكم. في مقدمة هؤلاء، النائب البرلماني السابق عن حزب الجمهوريين جورج فينيك، رئيس لجنة التحقيق التي تم تشكيلها بعد هجمات باريس، في نوفمبر/ تشرين الثاني 2015.
وقد حمل فينيك بشدة على «الطابع الاستعراضي» للسياسة المنتهجة من قبل ماكرون في مجال مكافحة الإرهاب، معتبراً أن «أياً من الخطوات المتخذة مؤخراً في مجال مكافحة الإرهاب لم تتعدّ حدود الاتصال السياسي الهادف إلى طمأنة الرأي العام وتنويمه». وضرب فينيك مثالاً صادماً للتدليل على خطورة الأوضاع، قائلاً: «حين وقع الهجوم الإرهابي في قاعة (باتاكلان)، كانت قوات الجيش التي تم نشرها في المدينة منذ هجمات (شارلي إيبدو) موجودة في المحيط القريب من القاعة. لكن محافظة الشرطة لم تسمح لها بالتدخل، بحجة أنها لا تمتلك الخبرة اللازمة لمواجهة مسلحين يحتجزون رهائن في فضاء مغلق. والأدهى من ذلك أن قوات الشرطة التي أوكلت إليها مهمة التدخل طلبت أن تستعير بعض البنادق المتطورة التي كانت في حوزة قوات الجيش، لكن القيادة العسكرية اعترضت على ذلك بحجة أنه أمر غير قانوني! وأكاد أجزم بأنه لو حدث هجوم مماثل اليوم، فسنواجه المفارقات العبثية ذاتها، لأننا لم نستلهم العبر، ولم نتعلم شيئاً من تلك المِحنة الوطنية التي شكلتها هجمات نوفمبر 2015».
التقرير الذي أعدته لجنة التحقيق التي ترأسها فينيك أوصى بإعادة هيكلة أجهزة الاستخبارات وفرق مكافحة الإرهاب بشكل جذري، لتنسيق جهودها وجعلها أكثر فاعلية في رصد المخاطر الإرهابية والتصدي لها. كذلك أوصى التقرير بضخّ دماء جديدة في أجهزة الأمن والشرطة، من خلال توظيف 2500 عنصر جديد من المحققين والمحللين، لتدارك النقص والتأقلم مع الأشكال المستجدة من التهديدات الإرهابية.

حذّر خبراء من
القصور المتفاقم في استراتيجية مكافحة الإرهاب في فرنسا


لكن السياسة المتّبعة منذ وصول ماكرون إلى الحكم سلكت منحى مغايراً تماماً؛ فإعادة هيكلة أجهزة الاستخبارات اختُزلت في شعار دعائي براق تمثل في إنشاء «مركز رئاسي لمكافحة الإرهاب» في الإليزيه. وسرعان ما اتضح أنه لا يعدو أن يكون هيئة استشارية مكلفة بصياغة التقارير الموجهة لرئيس الجمهورية، وغير مؤهلة للعب أي دور في تنسيق وتنظيم عمل أجهزة الاستخبارات. أمر يقول جورج فينيك إنه مثير للاستغراب: «لقد سبق أن أنشأ الرئيس (فرانسوا) ميتران فرقة لمكافحة الإرهاب في الإليزيه، بعد تفجيرات 1986. والجميع يعرف أن النتيجة كانت كارثية، إذ تحولت تلك الفرقة الى جهاز للتجسّس والتنصّت الهاتفي على الخصوم السياسيين، قبل أن تسقط مضرجة بفضائح تزوير الأدلة في قضية الإرهابيين الإيرلنديين المزعومين في (فانسان)، بل وممارسة الإرهاب في حادثة تفجير باخرة (ريمبو واريور) التابعة لمنظمة (غرينبيس). فما حاجة ماكرون إلى تكرار تجربة أثبتت فشلها منذ ثلاثين سنة؟ من الواضح أن اهتمام الفريق الرئاسي مركّز فقط على الإعلانات الدعائية المغلفة بالشعارات الفاقعة والمخادعة. وإلا كيف نفسر إطلاق تسمية Task force على هيئة مكافحة الإرهاب التي تم إنشاؤها في الإليزيه، في حين أن الأمر يتعلق بأقل من خمسين مستشاراً أغلبهم خبراء متقاعدون»!
تقرير لجنة التحقيق في هجمات باريس أوصى بسحب قوات الجيش تدريجياً من الشوارع، لعدم فاعليتها في مجال مكافحة الإرهاب. لكن السلطات اختارت العكس، إذ إنها أضافت إلى الـ7000 جندي الذين تمّ نشرهم في الشوارع منذ هجمات باريس قرابة 3 آلاف جندي احتياطي. ويرى جورج فينيك أن الإصرار على إبقاء الجيش في الشوارع، بالرغم من أن القوات المنتشرة منذ هجمات باريس «لم يسبق أن نجحت في إحباط أيّ هجمات إرهابية، عدا تلك التي استهدفت دورياتها»، يدل على أن «سياسة مكافحة الإرهاب الفرنسية تسير في طريق مسدود». ويضيف أن تقديرات لجنة التحقيق التي ترأسها أشارت إلى أن تكلفة قوات الجيش المنتشرة في الشوارع، منذ اعلان حالة الطوارئ قبل عامين، تقارب مليار يورو. وهي ميزانية يقول إنها «تكفي لتمويل توظيف الـ2500 محقق ومحلل الذين يجمع الخبراء على أن أجهزة مكافحة الإرهاب بأمس الحاجة اليهم. لكن السلطات تفضّل الإجراءات الاستعراضية، وإن كانت عديمة الفاعلية، لأن طابعها الدعائي يطمئن الرأي العام». من جهته، يصف الخبير في علم الإجرام، ألان بوير، الذي أصدر في يناير/ كانون الثاني الماضي كتاباً بعنوان «كيف نعيش مع الإرهاب»، هذه الاستراتيجية الماكرونية التي تراهن على الاستعراض والشعارات الرنانة بأنها أشبه بـ«سياسة النعامة». فمن خلال هذه التعزيزات العسكرية ذات الطابع الاستعراضي، يقول إنّ السلطات «تحاول إخفاء رأسها في الرمل، متجاهلة القاعدة البديهية المتمثّلة في كون الإرهاب بطبعه ميّالاً إلى التواري والسرية. بالتالي، فإن مهمات مكافحة الإرهاب لا تحتاج الى تعزيزات عسكرية ظاهرة للعيان، بقدر ما تتطلب تقوية العمل الاستخباري الميداني. فالتحقيقات والتحريات السرية هي الوسيلة الوحيدة لرصد المخططات الإرهابية ومحاولة إحباطها بشكل استباقي. وذلك بالتأكيد أكثر جدوى وفاعلية بكثير من الاكتفاء بنشر الجيش في محاذاة الأماكن أو الجموع أو التظاهرات التي قد يتم استهدافها».
من جهة أخرى، أثار القرار الذي أعلنته الحكومة، الأسبوع الماضي، بإعادة تشكيل قوات «الشرطة الجِوارية»، التي تم حلها في عهد الرئيس نيكولا ساركوزي، استغراب خبراء مكافحة الإرهاب. يقول المؤرخ بيار فيرمران إن هذا القرار ينم عن قصور مقلق في الرؤية يكاد يقارب العمى السياسي، معتبراً أن «من غير المعقول الإصرار على التعامل مع التهديدات الإرهابية المستجدة بوصفها تحدياً أمنياً محلياً يمكن مواجهته بتقوية الشرطة الجوارية، في حين أن هذا التهديد بات معولماً وعابراً للحدود».
للتدليل على ذلك، يقول فيرمران: «منذ هجمات 11 سبتمبر 2001، يعيش العالم في قبضة امبراطورية جديدة هي امبراطورية الإرهاب العابر للحدود. هناك قرابة 190 ألف شخص قتلوا، ونحو 200 ألف أصيبوا بجراح في هجمات إرهابية وقعت خارج المناطق أو الدول التي تشهد حالات حرب، كأفغانستان والعراق وسوريا واليمن والشيشان وأوكرانيا. هؤلاء الضحايا سقطوا في ما لا يقل عن 31 ألف عملية إرهابية وقعت خارج مناطق الحروب، أي بمعدل 6 هجمات يومياً منذ 16 سنة متتالية». ويخلص إلى القول إن «هذه الأرقام المريعة تبرهن على أن الإرهاب بات ظاهرة معولمة وعابرة للحدود. فمن العبث التفكير في التصدي له عبر «الشرطة الجوارية». بل بالعكس، يجب التفكير في تأسيس «شرطة فيدرالية أوروبية»، لأن الفضاء الأوروبي المفتوح أمام تنقل الأشخاص والسلع بحرّية، من دون أي رقابة على مستوى حدود كل بلد أوروبي، يجعل من دول الاتحاد الأوروبي المنطقة الأكثر عرضة لهذه الأشكال المستجدة من الإرهاب المعولم».