قبل أيام قليلة، كانت التصريحات الأميركية وتعليقات «الحلفاء الآسيويين» بشأن كوريا الشمالية تشبه بصورة أو بأخرى المشهد الشرق الأوسطي إبان غزو الولايات المتحدة للعراق عام 2003. إلا انّ التصريحات الصادرة في اليومين الأخيرين، عقب إعلان الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون تجميد مشروع إطلاق صواريخ تسقط قرب جزيرة غوام، وهو قرار أشاد به دونالد ترامب، واصفاً إياه بـ«الشجاع والعقلاني»، بدت أنها تقود نحو تخفيف حدة التوتر.
وفي الساعات الأخيرة، تراجعت التجاذبات الإعلامية من مستوى احتمال وقوع الصراع في أي لحظة إلى مستوى محاولة الحد من حجم المناورات السنوية المشتركة بين واشنطن وسيول، أو حتى إلغائها، وهي من المقرر لها أن تبدأ الأسبوع المقبل. وفي هذا الصدد، فإنّ وسائل الإعلام الرسمية في بيونغ يانغ انتقدت في الساعات الأخيرة تلك المناورات، ونقلت تقارير إعلامية أنّ «وكالة الأنباء المركزية الكورية الشمالية رأت أنها سوف تزيد من دفع الوضع في شبه الجزيرة الكورية إلى كارثة».
وسبق ذلك إعلان المندوب الروسي لدى الأمم المتحدة فاسيلي نيبينزيا، في حديث صحافي، أنّ «تخفيف المناورات يساعد في خفض هذه التوترات، فضلاً عن إلغائها». وتوجه نيبينزيا إلى الطرفين قائلاً «إنّ عليهما الامتناع عن كل ما من شأنه أن يؤدي إلى تدهور الوضع»، معرباً في الوقت نفسه عن ارتياحه لتراجع التوتر، ومشدداً أيضاً على «الحاجة إلى خريطة طريق سياسية» لتسوية الأزمة.
في المقابل، فإنّ أكبر مسؤول عسكري أميركي، وهو رئيس هيئة الأركان المشتركة جوزيف دانفورد، أعلن من بكين، أمس، أنّ المناورات ستجري، وهي «ليست مطروحة حالياً على طاولة التفاوض على أيّ مستوى». وأشار دانفورد للصحافيين في بكين، بعد اجتماع مع نظرائه الصينيين، إلى أنّ «نصيحتي لقيادتنا هي عدم الرجوع في أمر تدريباتنا، إذ إنها مهمة جداً للحفاظ على قدرة التحالف على الدفاع عن نفسه». وأضاف أنه «ما دام التهديد في كوريا الشمالية قائماً، فسنحتاج إلى الحفاظ على حالة استعداد عالية لمواجهة ذلك التهديد».
وكانت بكين قد استقبلت دانفورد يوم الثلاثاء، فيما أعلن نائب اللجنة العسكرية المركزية فان تشانغ لونغ، في وقت لاحق، أنّ «الحوار والمشاورات هما السبيل الفعّال الوحيد لحل المسألة في شبه الجزيرة، والوسائل العسكرية لا يمكن أن تصبح خياراً».
وبدا أنّ زيارة دانفورد لبكين تحمل الكثير من الدلالات في طيّاتها، إذ إنه التقى الرئيس الصيني شي جين بينغ الذي استقبله في «قاعة الشعب الكبرى»، وقال له: «إنك أول مسؤول عسكري أميركي كبير يزور الصين منذ أن تولى الرئيس دونالد ترامب منصبه».

بكين لدانفورد:
الوسائل العسكرية لا يمكن أن تصبح خياراً

من جهة أخرى، وبعد تصاعد مستوى التوتر في الأيام الأخيرة، سوف يكون من الصعب إعادة عقارب الساعة إلى الوراء. إلا أنّ الجزء الجنوبي من شبه الجزيرة الكورية، وهو عملياً أكثر المعنيين بالتصعيد الأميركي (لا كوريا الشمالية كما يظهر)، وذلك بسبب التأثيرات المباشرة لأي عمل عسكري محتمل، دخل على خط محاولات خفض التوتر. وأعلن رئيس كوريا الجنوبية مون جاي إن، أمس، أنّه لن تكون هناك حرب، مؤكداً أن لدى دولته «فيتو»، بحكم الأمر الواقع، في ما يتعلق بأيّ عمل عسكري أميركي رداً كما يُقال على برنامجي كوريا الشمالية النووي والصاروخي.
ولمناسبة مرور مئة يوم على تولّيه المنصب، قال مون جاي إن، في مؤتمر صحافي، «سأمنع الحرب مهما كان الثمن»، مذكّراً بأنّ واشنطن وترامب أعلنا أنه «مهما كان الخيار بشأن كوريا الشمالية، فإن أيّ قرار لن يُتّخذ إلا بعد استشارة جمهوريّة كوريا والحصول على موافقتها».
ورأى رئيس كوريا الجنوبية، التي تنشر فيها واشنطن 28500 عسكري، أنّ «جميع الكوريّين الجنوبيّين عملوا بجدّ معاً لإعادة بناء البلاد من أنقاض الحرب الكورية، ولا يمكننا خسارة كل شيء في حرب أخرى».
رغم ذلك، فإنّ مون جاي إن لم يتوقف عند هذا الحد، إذ حاول رسم «خطوط حمر»، وقال: «إذا قامت كوريا الشمالية باستفزاز آخر، فستواجه عقوبات أقوى ولن تكون قادرة على تخطّيها. أودّ أن أحذر كوريا الشمالية بأن توقف مغامرتها الخطيرة».
وعند هذا المستوى حذرت روسيا، بكلام واضح أمس، من مغبة الوصول إلى «نقطة اللاعودة». وبما يشبه التحذير الدبلوماسي، قالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية، ماريا زاخاروفا، إنّ «هناك عدداً من العواصم التي تهدد علناً باستخدام القوة، وإنّ تهديدات كهذه تُعتبر خطيرة للغاية». وأكدت أنّ «أي محاولة لحلّ عسكري لمشكلة شبه الجزيرة الكورية ستؤدي إلى مأساة على نطاق واسع، وخسائر فادحة في الأرواح من جميع الأطراف المتحاربة، إضافة إلى كوارث إنسانية واقتصادية وبيئية».
وإذا كان حلفاء بيونغ يانغ، مثل الصين وروسيا، قادرين على منع وقوع «كارثة الحل العسكري»، أو حتى انهم قادرون على منع توجيه ضربة عسكرية لكوريا الشمالية، فثمة من يعتقد أنّ وجود شخصية مثل دونالد ترامب على رأس الإدارة الأميركية يُبقي الأمور معلّقة وعرضة للمفاجآت، بسبب شخصيته وأسلوب تعامله مع السياسة الدولية.
وفي مقابل هذا الاعتقاد، فإنّ شخصية مثل الأميرال المتقاعد مايك مولن، الذي شغل منصب رئيس هيئة الأركان المشتركة بين عامي 2007 و2011، حذّر من النتائج الواقعية لرسائل ترامب المرتجلة، مشيراً إلى أن خطابه بشأن كوريا الشمالية «قيَّد الجيش» في الأصل. وأشار في تصريح إلى شبكة «ان بي سي نيوز» إلى أن ترامب يلغي عبر تصريحاته «المساحة المتوافرة لديه للمناورة، ويبدو لي (كأنه ينتهج) سياسة حافة الهاوية».
احتمال اتباع ترامب «سياسة حافة الهاوية» يراه أيضاً آخرون من زاوية أخرى. وفي تقرير نُشر أمس، تنقل وكالة «فرانس برس» عن جون هنَّا، الذي عمل في ظل ثلاث إدارات أميركية سابقة، بما في ذلك بمنصب مستشار الأمن القومي لنائب الرئيس السابق ديك تشيني، قوله إنّه من غير الواضح إن كانت تصريحات ترامب المرتبطة بالأمن القومي جزءاً من استراتيجية مدروسة بعناية أم أنها مجرد «خطابات هائجة صادرة عن عقل غير منضبط وشخص مبتدئ في السياسة الخارجية».
ترامب بدوره، الذي يواجه أزمات داخلية تبدو متصاعدة في وتيرتها، قد يكون تفاجأ بمقابلة أجراها المستشار الاستراتيجي للبيت الأبيض ستيف بانون، نشرت مساء أول من أمس، ويقول فيها بخصوص كوريا الشمالية: «ليس هناك حل عسكري، لننسَ الأمر. وما لم يتمكن أحد من حلّ المعادلة التي تثبت لي أن عشرة ملايين كوري جنوبي لن يقضوا خلال الدقائق الثلاثين الأولى بأسلحة تقليدية، فلا أدري ما الذي نبحثه هنا. ليس هناك حل عسكري للمسألة، إنهم يمسكون بنا»، علماً بأنه من المعروف أنّ بانون قد لا يبقى في منصبه، الأمر الذي يعكس عدم الاستقرار في إدارة ترامب، وأيضاً عدم استقرار توجهاتها الخارجية، خاصة بما له علاقة بكوريا الشمالية.
ومن الجدير ذكره أنّ وزير الخارجية الأميركي أعلن، مساء أمس، رفضه التعليق «على تصريحات بانون في تلك المقابلة تحديداً»، فيما حصر وزير الدفاع، جايمس ماتيس، «العواقب العسكرية الشديدة» فقط «في حال بادرت كوريا الشمالية إلى أعمال عدائية».
(الأخبار)