كان تشي غيفارا يقول إنّ نقطة التحوّل في حياة كلّ إنسان تجيء في اللحظة التي يقرّر فيها أن يجابِه شجاعاًَ خيارَ الموت، بدلاً من أن يهرب منه ذليلاً جباناًَ. إنه في اللحظة التي يعزم فيها على أن يقف صلباًَ في سبيل قضيته، ويرضى أن يدفع حياته ثمناً لموقفه، وأن يواجه حتفه - لا أن يفرّ منه - يكون قد تحول بطلاً، سواءٌ نجا من الموت، أو لم ينجُ.
بهذا المعنى كان غيفارا بطلاً... وبهذا المعنى كذلك كان رفيقه فيديل كاسترو بطلاً. فأنْ تقرّر إشعال ثورة مسلحة ضد عملاء الإمبريالية، وأن تقلب موازين المجتمع الراسخة منذ قرون، وأن تفتكّ امتيازات الإقطاعيين المتخمين وتهبَها للفقراء والمحرومين، وأن تؤمّم مصالح المُستعمِرين، وأن تخوض كفاحاً ضد الجهل والتخلف والأمية والفقر، وأن تواجه - بعد كل ذلك، لا بل قبل كل ذلك - أميركا فتضع رأسك برأسها، وعينك بعينها، وأنفك بأنفها... فأنت إذاً بطل!
لم تكن كوبا أمام أميركا إلّا سمكة صغيرة تجابه حوتاً فاغراً فاهُ يريد ابتلاعها. وإنّ من ينظر إلى الخريطة، يرى أنّ خليج المكسيك هو فم ذلك الحوت المفتوح، وأن جزيرة كوبا ليست أكثر من سمكة تجابه قدراً، بكبرياء وإباء... وأن تواجه الموت الأميركي شجاعاً - لا فرّاراً - تلك هي البطولة!

فتافيت معاهدة «دفاع مشترك» مع أميركا

حينما هرب من المواجهة عميلُ أميركا في كوبا الجنرال فولغنسيو باتيستا، يوم 1 كانون الثاني 1959، وهو يحمل في حقائبه 40 مليون دولار نهبها من البنك المركزي الكوبي (وكان ذلك آخر قرار اتخذه الرجل قبل أن يلوذ بالفرار إلى جمهورية الدومينيكان)، فإن هذا لم يكن إلّا مآل كل جبان. ويوم وصل موكب فيديل كاسترو إلى هافانا، ظافراً يوم 8 كانون الثاني 1959، بصحبة غيفارا وراؤول وثلاثمئة من الرفاق الذين خاضوا حرب تحرير شعبية من جبال سييرا مايسترا، فقد كان ذلك هو نهاية الفصل الأول من ملحمة مجابهة الموت بعزة وشجاعة.

لم تغيّر زينة السلطة
وبريقها شيئاً في
معدن الرجال



لم تغيّر زينة السلطة وبريقها شيئاً في معدن الرجال. ولم تهادن الحكومة الثورية الجديدة في مجابهة «الحوت»، منذ يومها الأول في الحكم. بدأ كاسترو بنوادي القمار التابعة للمافيا الأميركية، فأقفلها. ثمّ أخذ جميع ممتلكات الإقطاعيين الأجانب والمحليين، فردّها إلى الدولة. ثم وصلت يده إلى شركة «الفواكه المتحدة» كبرى شركات الأميركيين المحتكرة لمزارع كوبا، فأمّمها. وفي شباط 1960 أكمل كاسترو المجابهة الكبرى بتأميم المصافي الكوبية التي تسيطر عليها الحكومة الأميركية نفسها... وكذلك استرجع كاسترو في ظرف عام واحد من الثورة، ما قيمته 25 مليار دولار أميركي من ممتلكات بلاده (يمكن مضاعفة هذا الرقم عشر مرات إذا احتسبنا الفارق بين قيمة العملة الآن، وقبل 57 عاماً).
كان من الطبيعي حينئذ أن لا تصمت الولايات المتحدة على هذا المروق. والأنكى من مصادرة كاسترو «لأرزاق» أميركا في كوبا، أنه أظهر تحدياً آخر في السياسة، حين طالب بجلاء القوات الأميركية عن قاعدة «غوانتنامو»، ورفض القبول بسياسة تأجير الأراضي الكوبية لواشنطن، وأبى أن يأخذ المقابل المالي لهذا الإيجار الذي سنّه باتيستا. وفي اجتماع عام أمام حشد من الجماهير، أمسك فيديل كاسترو بمعاهدة الدفاع المشترك مع الولايات المتحدة التي استندت إليها واشنطن لرفض مغادرة «غوانتنامو»، فمزقها قطعاً صغيرة، ورمى ببقايا الأوراق الطائرة في الهواء. فكان ردّ أميركا على هذا العصيان إعلان محاصرة لكوبا، والعمل على قلب نظام الحكم فيها، وإصدار أوامر جازمة إلى محطة «السي آي إيه» في هافانا بالعمل على تصفية فيديل كاسترو بكل الوسائل.

في حفظ ماركس ورعايته

لم تدّخر «السي آي إيه» جهداً لتصفية كاسترو، فتعاونت مع المافيا ومع المنشقين الكوبيين ومع العسكريين، ومع القتلة المحترفين، بل وحتى مع المومسات... لكن كل المؤامرات على كاسترو لم تنجح في القضاء عليه! ومن الطريف أنّ المحاولات الأميركية وصلت إلى مستويات جنونية، فقد تفتقت «عبقرية» البعض من عملاء «السي آي إيه» حدّاً جعلهم يحشون بالمتفجرات أصداف شاطئ، كان فيديل يمارس على رماله رياضة الركض.

«الجيش الثائر لن يترك أبداً مواقعه
في لا سييرا مايسترا، إن لم يكن للتقدم نحو باقي أراضي الوطن. الموت أو النصر هو البديل الوحيد الذي نتقبله. من دون حرية ووطن، لا يريد أحد منا الحياة»
(من مقابلة مع صحافي فنزويلي خلال الحرب)


وكان المأمول أن تفجَّرَ الأصداف الملغومة باللاسلكي عند وصول الزعيم الكوبي إلى الشاطئ في الصباح. غير أنّ المتآمرين وجدوا أنفسهم بعيدين جداً في عرض البحر، ولم يروا الأصداف، ففجروها عشوائياً، ونجا الزعيم الكوبي. وفي مرة أخرى جنّدوا طالباً كوبياً ليغتال فيديل كاسترو في حرم الجامعة عبر مدفع «بازوكا»، وقُبض على الطالب قبل تنفيذ عمليته. وفي مرة ثالثة أرسلوا إلى كاسترو بذلة غوص مسمّمة. وفي مرة رابعة أهدوا إليه - عبر أحد العملاء - علبة شوكولا مسمومة... ولم تنجح كل تلك الوسائل في قتله، فمن الواضح أن كارل ماركس كان يشمل كاسترو بحفظه ورعايته!
والمفارقة أنه بدلاً من أن تختنق كوبا وتضمر، وتموت بفعل الحصار القاسي الذي فرضته واشنطن من حولها، فإنها صمدت، بل وقويت وتمددت أيضاً، إلى درجة جعلت نائب مدير «السي آي إيه» في السبعينيات الجنرال فيرنون والترز، يقول ساخراً وحانقاً: «تبدو لي كوبا كأكبر بلد في العالم: عاصمتها في بحر الكاريبي... شعبها في فلوريدا... جيشها في أنغولا... حزبها في موسكو... لغتها في مدريد... وكاسترو وحده في هافانا».
إلا أنّ محاولات الاغتيال المادية لكاسترو عاضدتها حملات أخرى لاغتياله معنوياً، ووصل الأمر بالصحافة الأميركية إلى أنها اختلقت أكاذيب رخيصة للنيل من الرجل. فيوم زار فيديل الأمم المتحدة في 20 أيلول 1960 لإلقاء كلمة بلاده أمام الجمعية العامة، زعمت الصحف الأميركية أن أفراد الوفد الكوبي كانوا لا يأكلون من مطعم فندق «شلبرون» في نيويورك، خشية أن يكون الطعام مسموماً. وأنهم كانوا يحضرون الدواجن إلى غرفهم في الفندق ويذبحونها في الحمّام، ويرمون بريشها في المراحيض، ثمّ يطبخونها في بيوتهم، ويلتهمونها. وفي وقت آخر، جاءت الأوامر لإدارة فندق «شلبورن» لكي يطردوا زبائنهم الكوبيين. وتعمدت إدارة الفندق إهانة الزعيم الكوبي عبر مطالبته بتقديم تعويضات عمّا ألحقه مرافقوه من الأذى بأثاث النزل! ولم يجد كاسترو من بدّ سوى مغادرة فندق لا يرغب بوجوده، والإقامة في «بنسيون» صغير في حيّ «هارلم»، حيث يقطن الزنوج في نيويورك.

النصر أو الثورة أو الموت

مضت كل تلك الأيام، ولم تقدر أميركا بكل جبروتها، أن تصنع لرجل يتحداها شيئاً. وأما رفيق الكفاح تشي غيفارا، فقد ودّع صديقه فيديل قبل أن يذهب إلى مغامرته الأخيرة فى بوليفيا. فكتب إليه رسالة قال فيها:
«إما أن ينتصر الإنسان أو أن يموت. ولقد قضى الكثيرون من رفاقنا نحبهم في الطريق إلى النصر. إننى أشعر بأنني أنجزت ذلك الجزء من عملي الذى كان يربطني بالثورة الكوبية، وإن بلاداً أخرى في هذا العالم تحتاج إلى جهودي. وأظن أنني أستطيع القيام بما لا تستطيعه أنت بسبب مسؤولياتك في قيادة كوبا. أجل لقد حان وقت الرحيل والافتراق، وأريدك أن تعرف أنني أرحل بمزيج من الغبطة والألم. فإذا جاءت ساعتي تحت سماءٍ أخرى، فإنك والشعب الكوبي ستكونان في خاطري قبل أن ألفظ نفسي الأخير... النصر أو الثورة أو الموت».