على هامش «قراءات بريماكوف»، حلّ مهندس «سياسة الانفراج» بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي في سبعينيات القرن المنصرم، ضيفاً على فلاديمير بوتين في الكرملين، في موازاة لقاء طويل عقده مع وزير الخارجية سيرغي لافروف.
اللقاء بين «القيصر» و«الثعلب»، ليس الأول من نوعه بطبيعة الحال، فالرجلان لطالما تبادلا الأحاديث الطويلة حول السياسة الدولية، بفعل «صداقة شخصية» تجمعهما، وهما لا يفوّتان مناسبة للتعبير عن الإعجاب المتبادل.
ومع ذلك، فإن الظهور المفاجئ لكيسنجر في روسيا (وإن كان على هامش فعالية فكرية مرتبطة برئيس الوزراء الروسي الراحل يفغيني بريماكوف)، أثار تكهّنات حول جهود وساطة يجريها الدبلوماسي العتيق، وخصوصاً لجهة توقيتها، السابق بأيام قليلة لقمّة هامبورغ، وما كشفته وسائل إعلام روسية عن لقاء آخر جمعه بدونالد ترامب، قبل توجهه إلى موسكو مباشرة.

سطع نجم هنري كيسنجر
مجدداً في عهد دونالد ترامب

الرئاسة الروسية سارعت إلى التوضيح بأن اللقاء بين بوتين وكيسجنر كان «خاصاً»، ولم يتضمن أي محاولة لفتح قناة خلفية بين الكرملين والبيت الأبيض، إلا أن المراقبين كافة، لا شك أنهم رصدوا خلال الفترة الماضية أن «الثعلب العجوز» بات كثير التنقل بين العواصم، تحت غطاء أكاديمي، يمنحه فرصة لقاء الكثير من القادة والمسؤولين في دول العالم. وفي الواقع، فإن اقتحام كيسنجر المتجدد للمشهد السياسي جاء مفاجئاً للكثيرين، وخصوصاً أنه أعقب عقداً من الانتكاسات التي منيت بها تنظيراته الجيوسياسية.
وكان واضحاً أن نجم كيسنجر، الذي سطع في عهد كل الرؤساء الأميركيين، منذ عهد ريتشارد نيكسون، كان قد خفت في عهد باراك أوباما، وذلك لأسباب عدّة، أبرزها أن الاندفاعة الروسية الهائلة، مع بداية العهد الثاني لفلاديمير بوتين ــ التي تزامنت بدورها مع بداية الولاية الثانية لأوباما نفسه ــ فرضت على سيد البيت الأبيض اللجوء إلى تنظيرات أكاديمية جديدة بحثاً عن منطق جديد لتحريك البيادق على «رقعة الشطرنج الكبرى».
لكنّ نجم «الثعلب العجوز»، الذي لاحقته خلال السنوات الماضية شائعات «الزهايمر»، سرعان ما سطع مجدداً في تشرين الثاني الماضي، حين حرص دونالد ترامب على استقباله، مباشرة بعد الزلزال الانتخابي في الولايات المتحدة، برغم كونه الصديق المقرّب لمنافسته اللدود هيلاري كلينتون.
في ذلك اللقاء، استمع ترامب جيداً لـ«نصائح» مهندس سياسة «خطوة ــ خطوة» في الشرق الأوسط، بعد حرب عام 1973، وخشبة خلاص ريتشارد نيكسون في حرب فييتنام، حول ما ينبغي القيام به في السياسات الخارجية، ولا سيما في الملفات المشتعلة: العلاقات مع روسيا، إيران، سوريا وكوريا الشمالية.
وبصرف النظر، عمّا إذا كان الرئيس الجديد قد سار وفق نصيحة «الدبلوماسي المحنّك» أو لا، فإنّ محرّكات كيسنجر التي دارت مجدداً، كان لها أثر كبير على بعض الخطوات السياسية لترامب، بعد تسلمه مفاتيح البيت الأبيض، وأبرزها اللقاء الذي جمعه بالرئيس الصيني شي جين بينغ، في نيسان الماضي، في فلوريدا، والذي مهّدت له مهمة دبلوماسية غير رسمية قام بها كيسنجر في بكين، خلال شهر كانون الأول. ولعلّ التجربة الكيسنجرية على خط واشنطن ــ بكين، هي نفسها ما تجعل «الثعلب العجوز» محط الأنظار مجدداً على خط واشنطن ــ موسكو.
وانطلاقاً من ذلك، فقد راقب كثيرون باهتمام ما أدلى به كيسنجر، في مداخلته خلال فعالية «قراءات بريماكوف»، إذ رأى أن «ثمة فرصة مهمة أمام بوتين وترامب، لا لتحسين العلاقات الثنائية فحسب، وإنما لتحسين الأوضاع في العالم عن طريق بذل جهود مشتركة».
وكعادته، أعاد كيسنجر العزف على عبارات الدبلوماسية البراغماتية، حين أشار إلى أن التوتر بين روسيا والولايات المتحدة ليس بجديد، إذ سبق أن شهدت العلاقات الثنائية مثل هذه المراحل المتوترة، «ولكن تمّ تجاوزها كل مرّة».
ومع أن كثيرين ينظرون إلى «إيجابية» كيسنجر على أنها وليدة أفكار «رومانسية» لدبلوماسي عجوز يحاول إسقاط معادلات القرن العشرين على تعقيدات القرن الحادي والعشرين ــ وخصوصاً أنها ترافقت مع موقف مثير للجدل اعتبر خلاله انتخاب ترامب «فرصة استثنائية مواتية» ــ إلا أن آراءه قد تشكل أحد المفاتيح التي سيلجأ إليها الرئيس الأميركي، في عملية التفاوض الصعبة مع غريمه الروسي، حين يتقابل الرجلان، في اجتماع قد يحسم الكثير من الخيارات المتبادلة.
ولعلّ آراء كيسنجر تبدو مفيدة لدونالد ترامب، إذا ما أراد فهم الديناميات التي تحرّك سياسات فلاديمير بوتين على امتداد أوراسيا، برؤية مغايرة عن تلك السائدة داخل المنظومة العسكرية ــ الاستخبارية في واشنطن، فالدبلوماسي التسعيني لا يشاطر الكثيرين من الساسة الأميركيين نظرتهم العدائية للرئيس الروسي، إذ سبق وحذر من مخاطر سياسة العقوبات ضد روسيا، ورفض النظر إلى بوتين باعتباره «هتلر جديداً»، بل «زعيماً روسياً يحاول تحقيق ما يمكنه من أجل بلده».
أولى الديناميات المحرّكة للسياسة الروسية، بنظر كيسنجر، تتمثل في أن «فلاديمير بوتين يحسب بدقة مصالح بلاده القومية ويدافع عنها بقوّة».
وغالباً ما ينطلق كيسنجر، في مقاربته للسياسة الروسية، من «الرباط العاطفي الداخلي» بين فلاديمير بوتين وتاريخ روسيا، لا بل يرى أن الرئيس الروسي «يردّ على حيف كبير أصابه جراء أفعال الغرب على نحو كان بطرس الأكبر سيفهمه لو عاش اليوم»، في إشارة إلى القيصر الذي نهض بروسيا إلى مصاف الدول المتقدمة، في مطلع القرن الثامن عشر، بعدما نجح في مواجهة التحديات الداخلية والخارجية.
وانطلاقاً من ذلك، يرى كيسنجر أنه لا يمكن الفصل بين المشاكل الداخلية التي تواجهها روسيا ــ ولا سيما على المستوى الاقتصادي ــ والتحديات الخارجية المتمثلة في كونها «نقطة ثقل حيوية واستراتيجية» على المسرح الدولي.
ومن هنا، يأتي حرص كيسنجر الدائم على رفض السياسات الحالية المتبعة أميركياً وأوروبياً ضد روسيا، إذ يرى أن «من مصلحة الجميع أن تبقى روسيا جزءاً من النظام الدولي»، وأنه لا يمكن تجاهل موقعها الاستراتيجي على المسرح الدولي، لكونها «ليست مجرد جزيرة معزولة».
وبالرغم من دفاعه الواضح عن سياسة «الوقوف في وجه بوتين»، إلا أن كيسنجر يدعو إلى إدراك النقطة التي ينبغي أن تنتهي عندها المواجهة ضده. وعلى نحو أكثر تفصيلاً، قد يكون لآراء هنري كسينجر أثر كبير على دونالد ترامب في الملف الأكثر تعقيداً في العلاقات الروسية ــ الأميركية، والمتمثل في الصراع على سوريا، وخصوصاً أنها تدعم بشكل كبير الوجهة الأساسية التي سار عليها الرئيس الأميركي، قبل الانقلاب الكبير، الذي طرأ عليها، بفعل الضغوط الداخلية.
والأساس الذي ينطلق منه كيسنجر في تحديد السياسة الروسية تجاه سوريا، هو أن موقف بوتين يعود إلى «قلق متزايد من تنامي الإسلام المتشدد»، علاوة على «عدم رغبته في أن تحدد الولايات المتحدة منفردة مسار الأمور في الشرق الأوسط». وعلى هذا الأساس، فإنه «حينما بات البيت الأبيض في موقف حرج بعد رفض الكونغرس المصادقة على ضربة عسكرية لسوريا، رأى بوتين في الأمر فرصة من أجل التدخل، عبر تخفيف العبء عن الجانب الأميركي، والدفاع باتجاه معالجة مشتركة بين الجانبين» لهذا الصراع.
ويرى كيسنجر أنّ «مصدر القلق الأكبر في سوريا بالنسبة إلى بوتين هو إمكانية تسبب هذا النزاع في زيادة التشدد بالمنطقة وليس حماية شخص بعينه»، في إشارة إلى الرئيس السوري بشار الأسد، وهو ما يتفق معه الدبلوماسي المخضرم بقوله إنّ «من الخطأ القول إن مشكلة سوريا الوحيدة تتمثل في شخص الأسد، أو أنّ رحيله سيحل كل المشاكل».
ومع أن أفكار كيسنجر قد تشكل دعامة أيديولوجية لسياسة براغماتية يسعى إليها ترامب، ويأمل بأن تجد طريقها إلى «صفقة» مع روسيا خلال قمة هامبورغ، إلا أنّ ترجمتها تبقى محاطة بكثير من الشكوك، وخصوصاً أنّ «العقلانية الدبلوماسية» لـ«ثعلب عجوز» تبقى قاصرة على التأثير في سعار عسكري بات المحرّك لكل خيارات الإدارة الأميركية.




روسيا والصين: أولويتنا إيجاد حل في كوريا



وحّدت روسيا والصين جهودهما الدبلوماسية، أمس، ودعتا كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية والولايات المتحدة إلى توقيع خطة صينية لنزع فتيل التوتر بشأن برنامج بيونغ يانغ الصاروخي. وجاء ذلك في وقت أعلنت فيه كوريا الشمالية أنها نجحت في اختبار صاروخ باليستي، قطع لأول مرّة مساراً قد يسمح باستهداف ولاية ألاسكا الأميركية.
وفي مؤتمر صحافي مشترك عقده الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع نظيره الصيني شي جين بينغ، عقب لقاء جمعهما في الكرملن، أكد بوتين أن «الأولوية المشتركة بين روسيا والصين في السياسة الخارجية هي إيجاد حل للوضع في كوريا».
وبموجب الخطة الصينية، ستعلّق بيونغ يانغ برنامجها للصواريخ الباليستية، وستعلّق الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية في الوقت نفسه تدريبات صاروخية واسعة النطاق. وتحدّدت المبادرة في بيان مشترك صدر عن وزارتي الخارجية الصينية والروسية، بعد وقت قصير على محادثات بوتين وشي جين بينغ في الكرملن. وأفاد البيان ذاته بأن موسكو وبكين تريدان من الولايات المتحدة أن توقف فوراً نشر نظام «ثاد» المضاد للصواريخ في كوريا الجنوبية.
(رويترز، الأناضول)