بثّ الرئيس الفرنسي الجديد إيمانويل ماكرون، ظاهرياً، في قمته الأوروبية الأولى، روحاً إيجابية وثقة افتقدتهما المجموعة الأوروبية في الفترة الأخيرة. لم يخش الوافد الجديد من الوقوف كندٍّ للمستشارة الألمانية الخبيرة في السياسة الأوروبية، أنجيلا ميركل، وطرح أفكاره «الإصلاحية» للمشروع الأوروبي، خصوصاً على مستوى منطقة اليورو والسوق الأوروبية الموحدة والمشروع الدفاعي المشترك.
ووصف أحد الدبلوماسيين الأوروبيين المناخ العام الذي كرسه ماكرون في أوروبا بأنه «عودة الاختيال الفرنسي»، فيما وصل الأمر بمجلة «ذي إيكونومست» البريطانية إلى إطلاق غلاف عددها الأسبوع الماضي بصورة لماكرون «المخلص» وهو يسير على المياه، ومن خلفه تظهر رئيسة الوزراء البريطانية، تيريزا ماي، وهي تغرق.
ومع أن ثقة ماكرون بنفسه، التي عززها إثر حصوله أخيراً على أغلبية كبيرة في الجمعية الوطنية، توحي بأن الثنائي الألماني ــ الفرنسي قد عاد إلى العمل، إلا أن كل تلك العناوين الرنانة التي مررها الوافد الجديد إلى بروكسل، لا يخلو تنفيذها من تحديات وعثرات كبيرة، على المستوى الفرنسي والأوروبي.
وتلك الصورة الحالمة التي قارب بها الأوروبيون وصول ماكرون إلى السلطة كمنقذ للمشروع الأوروبي، لا تأتي فعلياً من طروحاته المتعلقة بالسوق الأوروبية ومنطقة اليورو، بل من واقع وصوله إلى السلطة في اللحظة الملائمة وفي وقت بدا فيه أن لا شيء أسوأ سيضرب الاتحاد الأوروبي، مقارنة بما سبق.
جاء ماكرون في زمن المخاطر، مبعداً «شبح الشعبوية» المتمثل في زعيمة «الجبهة الوطنية» مارين لوبن، وفي ظل تحديات بدأت بتصويت البريطانيين بالخروج من الاتحاد الأوروبي، وتسلّم دونالد ترامب رئاسة الولايات المتحدة، والذي وصفه رئيس الحزب الديموقراطي الألماني مارتن شولتز بأنه «مدمر القيم الغربية».
إنها تلك القيم، المعنية أساساً بالعولمة والتجارة الحرة ومواجهة التغير المناخي، التي لوّح بها ماكرون منذ ترشحه للانتخابات الرئاسية، مخففاً بوصوله إلى السلطة النظرة التشاؤمية والتشكيك في المشروع الأوروبي. وعزز ماكرون تلك الرؤية الإيجابية في حواره مع مجموعة صحف أوروبية، نشر في اليوم الأول لقمة بروكسل، بتكراره عبارات مثل «النهضة» و«الثورة» لتوصيف المرحلة القادمة من تاريخ أوروبا. وعزم على وصف مهمته المقبلة بأنها «تحدٍّ تاريخي» يُقارَب عبر التقرّب من الشعب الأوروبي والنظر إلى أحلامه، وليس بإصدار القرارات خلف أبواب الاجتماعات المغلقة والقمم، متحدثاً عن «أوروبا التي تحمي». وتمتّنت النظرة الإيجابية للمستقبل بزيارته برلين في اليوم الأول من عهده، الأمر الذي عكس صورة عودة «المحرك» الألماني الفرنسي إلى العمل، والانفتاح الذي قوبل به ماكرون من المستشارة الألمانية، المقبلة على تحدٍّ انتخابي في أيلول المقبل. وفي بروكسل، وقف ماكرون إلى جانب ميركل في مؤتمر صحافي ذي رمزية كبيرة، وأظهر أن برلين وباريس تعملان معاً لإنقاذ أوروبا بـ«دينامية وإيجابية»، وفق ميركل.

«وصفة تدميرية»

أصغت المستشارة الألمانية بهدوء إلى مقترحات الرئيس الفرنسي، وأعلنت دعمها له. لكن، عدا عن الحديث عن خطة دفاعية أوروبية مشتركة، لم تخرج قمة بروكسل بأي شيء آخر، خصوصاً عن الإصلاحات المتعلقة بمنطقة اليورو. ويريد ماكرون الدفع نحو مزيد من الاندماج في منطقة اليورو عبر تفعيل ميزانية خاصة بها، وتعيين وزير مالية خاص باليورو، إضافة إلى برلمان خاص بمنطقة اليورو. ومع تفادي الحديث عن تلك النقاط في بروكسل، لا شيء يمنع أن تلقى المصير الذي لقيته في الماضي، عندما طرحها الرئيس الفرنسي السابق فرنسوا هولاند، في عام 2015، ورميت في الأدراج المغلقة. أما في ما يتعلق بالسوق الموحدة، فإن الطموحات الفرنسية كذلك لا تلقى التجاوب الكامل من جميع أعضاء المجموعة الأوروبية.

ينظر إلى مبادرات ماكرون
عن التجارة الحرة على أنها
فرنسية جداً

ويريد ماكرون زيادة القيود على العمال وعلى الشركات لمنعها من استخدام عمالة رخيصة من دول أخرى في الاتحاد الأوروبي، أو نقل الإنتاج إلى الدول ذات الأجور المنخفضة، أو بمعنى آخر زيادة القيود على السوق الحرة، في اقتراح يستهدف بالدرجة الأولى الاستثمارات الصينية والعمالة من شرق ووسط أوروبا. ويصف ماكرون الأمر من بروكسل بأنه تفادي تعريض أوروبا لما أطلق عليه تسمية «فوضى العولمة».
لا موقف رسمياً واضحاً من جهة الشريك الألماني بعد، حيال طروحات ماكرون. إلا أن مدير البنك المركزي الألماني، جنس وايدمان، ليس معجباً بخطته المتعلقة بمنطقة اليورو، والتي يعارضها المحافظون الألمان. وقال وايدمان في حديث إلى «بوليتيكو» إن ما يقترحه ماكرون من «تجميع لموارد منطقة اليورو... هي مقاربة خاطئة... هذا سيعقّد مشاكل أوروبا ولن يحلّها».
كذلك، فإن مبادراته عن التجارة ومراقبة الاستثمار الخارجي هي طروحات يُنظر إليها في أوروبا على أنها «فرنسية جداً» ولا إجماع أوروبياً عليها، وفق «فاينانشل تايمز»، ليكون ماكرون مجرد «مسؤول فرنسي آخر لديه ميول تدخلية وحاجة للاستجابة للضغوط الشعبوية في الداخل». وفي السياق نفسه، رأى الاقتصادي الألماني هانز ــ فيرنير سين، في مقال في «بروجيكت سينديكايت»، أن الدافع وراء ما يقترحه ماكرون عن منطقة اليورو ما هو إلا لدعم «الاقتصاد المحلي على حساب الآخرين». وهذه المبادرات إذا نفّذت فستعمّق الفارق أكثر بين دول الشمال والغرب الأوروبية، وفق سين، الذي اعتبر طروحات فرنسا «وصفة لتفكيك الاتحاد الأوروبي». وأشار الاقتصادي الألماني كذلك إلى أن الموافقة الألمانية على اقتراحات ماكرون ليست سهلة.
من جهته، رأى وزير المالية اليوناني السابق يانيس فاروفاكيس، في مقال في الصحيفة نفسها، أن اقتراحات ماكرون سياسية ولن تقبل بها ألمانيا، مضيفاً أنّ انهيار منطقة اليورو سيصبح حتمياً بعد فشلها. وأشار إلى أن أزمة منطقة اليورو النابعة من مغالطة أن اتحاداً مالياً قد يتطور إلى اتحاد سياسي، تتبعها مغالطة أخرى اليوم تهدد اليورو، وهي أنه يمكن «تطوير» منطقة اليورو لاتحاد فدرالي، وهو أمر إذا ما حصل فسيكون آخر فرصة لإنقاذ «حلم» الحصول على اتحاد أوروبي «جيد».

«زلزال» الداخل

وصف ماكرون بلده بأنه «بلد الثورة»، ولعلّ هذا الوصف هو ما يشكل أكبر تحدياته المقبلة في الداخل؛ فالرئيس الذي استمد ثقته وقوته وسعيه إلى تغيير المشروع الأوروبي من الشعب، قد يخسر هذه الثقة عند أول استحقاق، وهو المتعلق بتعديل قانون العمل الذي لا يحظى بالقبول من النقابات العمالية في فرنسا. وتعديلات قانون العمل ينتظرها الألمان والأوروبيون بشدة، انطلاقاً من معادلة أن «ماكرون لن يصلح أوروبا ما لم يصلح فرنسا أولاً»، وفق أحد المسؤولين في بروكسل لـ«فايننشال تايمز».
وتهدّد النقابات العمالية بإضرابات وتظاهرات في حال إصدار التعديلات. وذكرت صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية، في وقت سابق، أن التعديلات التي ستضاف إلى القانون تتضمن منح مرونة غير مسبوقة على القواعد داخل الشركات، واصفة أثرها على المجتمع بأنه سيكون بمثابة «زلزال». وهي تمثل وفق الصحيفة «إذعان» الحكومة لمطالب أصحاب العمل في ما يخصّ المفاوضات مع النقابات وتسريح العمال وتحرير سوق العمل للحد من البطالة، خصوصاً أنها تسهّل معايير الطرد من العمل وتحديد ساعات العمل والأجور وبرنامج العطل من دون التنسيق مع النقابات والاتحادات المهنية، في ما يوصف بأنه تحويل سوق العمل الفرنسي إلى النموذج الألماني.
كل تلك المؤشرات تبيّن أن «إنقاذ أوروبا» لا يزال بعيد المنال، وأن الهالة الإيجابية التي تحيط بماكرون ستتحول في المستقبل إلى أمر من اثنين: إما أن ينتهي المشروع الأوروبي بكارثة، أو بنهضة حقيقية خلال العقد المقبل. لكن الوصول إلى النتيجة الثانية أمامه عقبات كثيرة؛ فالصورة الجميلة للرئيس الفرنسي الجديد لا تلغي أزمات أوروبا وواقعها.




التباين بين الشرق والغرب

حماسة دول غرب الاتحاد الأوروبي تتحول إلى شيء من الشك والحذر شرقاً، ما يبيّن أن وحدة أوروبا أمر نظري فقط. لحظة ماكرون والأمل الذي ضخّته في الشطر الغربي من القارة يواجهان بمشاعر سلبية من دول الشرق التي رفضت إساءة ماكرون لها بقوله في مقابلته إن «أوروبا ليست متجراً».
وأثار قول ماكرون غضب تلك الدول التي تشعر بأنها قد تصبح مهمّشة في حال انطلق «المحرك الألماني ــ الفرنسي». وفي لقاء جمع ماكرون بقادة وسط أوروبا في بروكسل، حذرت بولندا من «الشعارات الجاهزة التي تعتبر أحياناً مهينة». وأقرّت الدول التي كانت مشاركة في الاجتماع، نهاية الأسبوع الماضي، بوجود تباينات «كبيرة» والحاجة إلى «حوار أكثر كثافة بين فرنسا ووسط أوروبا»، مع التوافق على إجراء لقاءات منتظمة لحل هذه التباينات. أما الرئيس المجري، فيكتور أوربان، فقد كان أكثر غضباً من زملائه بوصفه ماكرون بـ«القادم الجديد».
ويعكس ماكرون الرؤية الغاضبة من دول الشرق والوسط في ما يتعلق برفضها استقبال اللاجئين، وذلك على الرغم من أن اتفاقاً أوروبياً لتوزيع الحصص لم يتم التوصل إليه بعد.
من جهة ثانية، فإن العمالة من شرق أوروبا ووسطها تشكل منافسة حادة في دول الغرب التي تأتي إليها، وهو عامل آخر تحدث عنه ماكرون في مقابلته، يزيد من التباين بين الشرق والغرب. وبالنسبة إلى ماكرون، فإن «بريكست» حصل لأن الطبقة الوسطى لم تعد تحتمل قدوم عمالة رخيصة تسرق منها فرص العمل، وهذه العمالة الرخيصة تضع المشروع الأوروبي في خطر.