مَن يراقب الهستيريا التي تضرب أميركا إعلاماً ونظاماً في الفترة الأخيرة يشعر بأمرَين: الأول أنه عاد بالزمن إلى خمسينيات القرن الماضي في عزّ هوَس الأميركيين بـ«العدو الشيوعي السوفياتي» الذي «يهدّد وجود الولايات المتحدة ودول العالم الحرّ»، والثاني أنه أمام محاولة رسمية أميركية مستمرة لتدمير كلّ من يخالف النهج السياسي المعتمد منذ أكثر من ثلاثين عاماً… حتى لو كان الرئيس نفسه.
منذ إطلاق حملته الانتخابية لم يوفّر النظام الأميركي وأدواته وسيلة لمهاجمة دونالد ترامب. هو ليس شخصاً مرغوباً به من قبل الإدارة الأميركية حتى قبل أن تطأ قدماه البيت الأبيض، فكيف الحال إذا جوبه بالفزّاعة التاريخية، تهمة «القرب من موسكو» لضرب مصداقيته وتكريس عدم أهليته لمنصب الرئاسة.
بعد حوالى ثلاثين عاماً على انهيار الاتحاد السوفياتي لا يزال الأميركيون يرون في روسيا «شبحاً من الحرب الباردة»، وتهديداً مباشراً لأمنهم ومصالحهم ومنافساً لسياساتهم الخارجية. هوَس الأميركيين بـ«الخطر الروسي» نابع من موروثات الحقبة السوفياتية ومن النهضة التي أعادت روسيا قطباً منافساً للولايات المتحدة على كافّة المستويات، بقيادة الرئيس فلاديمير بوتين. لذلك، كرّست القاعدة السياسية الأميركية، منذ التسعينيات، العداء المسبق للجمهورية الروسية كنهج ثابت، حتى لو سُجّلت بعض محاولات التعاون (طلب جورج والكر بوش من روسيا المساعدة بعد هجمات ١١ أيلول)، وبعض مبادرات إنعاش العلاقات (زرّ إعادة إطلاق العلاقات الشهير الذي قدّمته وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون لنظيرها سيرغي لافروف عام ٢٠٠٩). إعلام النظام الأميركي اعتمد النهج الرسمي فقام بجلد روسيا، نظاماً ومجتمعاً وسياسة داخلية وخارجية، عند كلّ فرصة سانحة. هكذا، منذ نهاية الحرب الباردة، سعى الرؤساء الأميركيون المتعاقبون للإبقاء على «التوازن المعادي» مع روسيا، إلى أن جاء دونالد ترامب.

السيناتور الأميركي جون ماكين: بوتين أخطر من داعش
على العالم


ترامب هو الرئيس الأميركي الخامس منذ انتهاء الحرب الباردة. وهو الرئيس الوحيد الذي في سجلّه تصريحات يُبدي فيها إعجاباً بروسيا وبرئيسها. فهو، كرجل أعمال ثري، قد حاول منذ عام ١٩٨٧ فتح خطوط في عالم الأعمال الروسي ونجح بذلك لاحقاً، فأنشأ مشاريع واستثمارات في روسيا منذ بداية الـ٢٠٠٠. ترامب «معجب بما فعله بوتين بروسيا» كما صرّح في مقابلة مع لاري كينغ عام ٢٠٠٧، وهو الذي سعى لاستضافة موسكو حفل «مسابقة ملكة جمال الكون» لعام ٢٠١٣، التي كان يديرها. ترامب لا يكنّ عداءً مسبقاً لروسيا، على العكس يجمعه بها تعاون وإعجاب و«بزنس». لكن عندما يصبح رجل الأعمال هذا على رأس السلطة الأميركية، لا يمكن لمَن بنوا أسس العداء لروسيا في النظام الأميركي منذ عشرات السنين، أن يتقبّلوا انفتاحاً وعلاقات وثيقة تجمع رئيس السلطة في واشنطن مع موسكو. فـ«بوتين هو أخطر من داعش على العالم» وفق ما صرّح به السيناتور جون ماكين
، قبل أيام. لذا، ومنذ السباق الانتخابي، ركّزت الحملات المعادية لترامب على عناوين ثابتة من بينها اتهامه بقربه من النظام الروسي، ثم تحويله إلى «دمية بيد بوتين» بعد تسلّمه السلطة. خلال الأشهر الخمسة الأخيرة، لم يمضِ أسبوع واحد من دون عنوان صحافي يقول إن «بوتين هو الحاكم الفعلي للبيت الأبيض». بعض المقالات والتصريحات السياسية أشارت منذ اللحظات الأولى إلى «ضلوع موسكو في تحويل نتائج التصويت لصالح ترامب». البعض أكّد أن «الروس هم من قرصنوا وسرّبوا» رسائل كلينتون الإلكترونية، بغية ضرب حملتها الانتخابية. مؤسسات إعلامية وصحف بارزة، أفردت صفحات للتحذير من «التدخل الروسي في السياسة الأميركية» منذ اليوم الأول لترامب في الحكم. تحقيقات صحافية استندت إلى «تقارير استخبارية» تحدّثت عن «تقنيات روسية ونشاط مكثّف في موسكو لنشر البروباغندا على تويتر وفيسبوك وغوغل» دعماً لترامب، ما استدعى نفياً من المواقع الإلكترونية المذكورة. مهلاً، أليست وكالة الأمن القومي الأميركية هي من تقوم باختراق تلك المواقع وغيرها وتتجسس على مستخدميها حسب تسريبات إدوارد سنودن الأخيرة؟! معظم المقالات لا تريد التذكير بذلك.
لكن الأمور اتخذت منحى تصاعدياً خلال الشهر الماضي، إذ اتهمت تقارير في صحيفتي «نيويورك تايمز» و«واشنطن بوست» مستشاري ترامب مباشرة بـ«العمل مع الروس لمنع وصول كلينتون إلى الرئاسة». وكالة «رويترز» مثلاً أحصت «١٨ اتصالاً على الأقلّ بالروس من قبل حملة ترامب»، مستندة إلى معلومات «مسؤولين أميركيين». مجلة «تايم» نشرت غلافاً استثنائياً من دون عنوان يحمل صورة تظهر كنيسة القديس باسيليوس في الساحة الحمراء «تحتلّ» جدران البيت الأبيض. «تايم» كشفت «حرب السوشال ميديا الروسية على أميركا» في عددها، وشرحت تفاصيل إلكترونية مملّة عن مزاعم كيفية «تلاعب روسيا بالرأي العام الأميركي»، من خلال «توظيف آلاف العملاء السرّيين وبرامج كومبيوتر روبوتية»... «مؤامرة ضد أميركا، من داخل حملة بوتين لتدمير الديموقراطية الأميركية»، عنونت «نيوزويك» أحد أغلفتها قبل أيام أيضاً.
ردود فعل ترامب فاقمت من جهتها نظريات المؤامرة وادعاءات خصومه، خصوصاً بعدما طرد مستشاره للأمن القومي مايكل فلين، المتهم «بمناقشة أمور أميركية مع السفير الروسي قبيل تولّي ترامب مهامه الرسمية»، وإعفاء مدير مكتب التحقيقات الفدرالي جيمس كومي، من مهامه وهو كان يتولّى التحقيقات بشأن الصلات المزعومة بين روسيا وحملة ترامب الانتخابية. وقبل أيام، طالت الاتهامات صهر الرئيس الأميركي ومستشاره جارد كوشنر، بـ«محاولة إقامة خط تواصل سرّي مع موسكو» قبل أن يتولّى منصبه الرسمي. ترامب يرى في كلّ ذلك «مؤامرة من الدولة العميقة ضده» وخصومه يدعون إلى عزله... ماذا بعد؟ أجواء «ووترغيت» في البيت الأبيض وعاصفة حرب باردة في الإعلام. أما ردّ الكرملين فجاء: «نستنكر هوَس الأميركيين العاطفي بروسيا... لكننا سنصبر لأن ذلك الهوس سينتهي قريباً».