لم تُفسد أجواء موسكو الملبّدة بالغيوم الاستثنائية، احتفالية «يوم النصر على الفاشية» في روسيا هذا العام. الأحوال الجوية فرضت نفسها على العرض العسكري السنوي، فاقتصرت الاحتفالية الوطنية على مشاركة للوحدات البرّية، فيما افتقدت سماء الساحة الحمراء إلى «نسور الجو»، وذلك بعدما فضلت وزارة الدفاع عدم استخدام «الرذاذ الطارد للغيوم»، وبالتالي قررت إلغاء العرض الجوي، الذي كان يفترض أن تشارك فيه أحدث الطائرات الحربية الروسية.
ومع ذلك، فإنّ الرسالة التي أرادت روسيا إيصالها إلى العالم، في هذا اليوم، كانت جليّة وصافية، وقد عكستها كافة التفاصيل المرتبطة بمراسم الذكرى الثانية والسبعين لانتهاء الحرب الوطنية العظمى، التي زاوجت بين التقليد السوفياتي، الذي عكسته المشاركة العاطفية لقدامى المحاربين، الذين يتضاءل عددهم مع مرور السنين، وبين الحداثة الروسية، المتمثلة في المشاركة اللافتة لآلاف الجنود، من متخرجي المعاهد العسكرية الروسية المتعددة الاختصاصات.
هذه المزاوجة، ذات الرمزية البالغة، تضمنت تقليداً عسكرياً، تمثل في تقدّم الدبابة «تي 34»، العرض الخاص بالآليات الحديثة، والصواريخ الأكثر تطوراً، في الجيش الروسي، تخليداً للدور الذي أدّته في الحرب الوطنية العظمى.

الرئيس الروسي:
يُطالبنا الواقع اليوم برفع
قدراتنا القتالية

دقات ساعة الكرملين أذنت، كالعادة، ببدء العرض العسكري، الذي افتتحته ثلة من تسعة جنود، ساروا، على وقع موسيقى «الحرب المقدّسة»، حاملين العلم الرسمي لروسيا الاتحادية، والراية السوفياتية التي غرسها الجيش الأحمر فوق «مبنى الرايخستاغ» في برلين، يوم الثاني من أيار عام 1945، الذي خلّدته صورة التقطتها عدسة يفغيني أنانافيتش خالدَي، وباتت أيقونة الانتصار على الفاشية والنازية.
ووفق التقاليد العسكرية، فقد افتُتحت احتفالية «عيد النصر»، عند الساعة العاشرة تماماً، مع دخول وزير الدفاع سيرغي شويغو، والقائد العام للقوات البرية الجنرال أليغ ساليوكوف، بسيارتين مكشوفتين، إلى الساحة الحمراء، من بوابة سباسكي، حيث تفقدا الجنود المشاركين في العرض، الذين بلغ عددهم أكثر من عشرة آلاف عنصر، يخدمون في 114 وحدة عسكرية، قبل أن يأمرا ببدء العرض.
وإلى جانب الرسالة الواضحة التي حملتها أدق تفاصيل العرض العسكري، الذي تطلب إجراؤه أكثر من «بروفة» في خلال الأيام القليلة الماضية، جاء خطاب الرئيس فلاديمير بوتين، ليترجم ما سبق، سواء في مخاطبته للشعب الروسي، الذي «لن يهزم بعد اليوم»، وللخارج، عبر تذكير الغربيين، على وجه الخصوص، بأنّ «حرية أوروبا والسلام في العالم هو نتاج ما حققه أجدادنا وآباؤنا». وبدا حديث بوتين موجهاً إلى أولئك الذين يعملون منذ سنوات، على التقليل من تضحيات الاتحاد السوفياتي في الحرب العالمية الثانية، وهم أنفسهم الساعون إلى تقويض الجهود التي تبذلها روسيا في الحرب على «الإرهاب» و«النازية الجديدة».
وقال بوتين، في خطاب «عيد النصر»، إنّ «الانتصار العظيم على تلك القوة البشعة، سيبقى في ذهن الإنسانية، كذروة لانتصار الحياة والعقل على الموت والبربرية». وذكّر الغرب بالقول: «لم نتمكن من الحيلولة دون هذه التراجيديا الكارثية، بسبب الانقسام بين الدول الرائدة في العالم، وهو ما سمح للنازية باحتكار الحق في تقرير مصير شعوب أخرى، من خلال شنّ حرب دموية، واستخدام جميع الدول في أوروبا لتحقيق أهدافها البربرية».
وأكد الرئيس الروسي أنّ «الجندي الروسي، كما بالأمس، كذلك اليوم، مستعد لإنجاز أية مأثرة، وتقديم أية تضحية، من أجل وطنه وشعبه». وأضاف، متوجهاً إلى قدامى المحاربين بالقول: «سنحمي روسيا، كما قمتم بذلك أنتم، جنود الانتصار، وسنعزز تقاليد حب الوطن وخدمته». وأشار إلى أنّ «دروس الحرب (العالمية الثانية) تعلمنا أن نكون على يقظة، وأن نتصدى لأي عدوان غادر، والواقع اليوم يطالبنا برفع قدراتنا القتالية، لمكافحة الإرهاب والتطرف والنازية الجديدة، وغيرها من المخاطر».


ورأى بوتين، الذي حرص على مصافحة قدامى المحاربين على منصة الشرف، أنّ الحرب على الإرهاب تتطلب تضافر الجهود بين كل مكوّنات المجتمع الدولي، مؤكداً أنّ «روسيا منفتحة ومستعدة للتعاون مع جميع القوى التي تختار طريق الشراكة المتكافئة، وكل من يرفض الحرب كظاهرة مناهضة لحياة الإنسان وطبيعته».
وعلى إيقاع طبول مدرسة الجنرال فاليري خليلوف للموسيقى العسكرية، التي تحتفل هذا العام بعيدها الثمانين، استعرض بوتين القوات العسكرية البرية، التي تقدمها، حملة الأعلام، وحرس الشرق المكوّن من القوات البرية والبحرية والجوية الفضائية، ثم الطلاب الأصغر سناً من «مدرسة سوفوروف العسكرية الموسكوفية» (خرّجت أكثر من 13 ألف ضابط)، و«مدرسة سوفوروف العسكرية» في مدينة تفير (خرّجت أكثر من 15 ألف طالب)، و«مدرسة ناخيموف البحرية».
وللمرة الأولى، شاركت في العرض العسكري في الساحة الحمراء وحدة من «جيش الفتيان»، الحركة الأهلية العسكرية الوطنية، التي تضم أكثر 70 ألف فتىً وفتاة، من كل أنحاء روسيا.
وإثر ذلك، تقدّم فوج من القوات البرية، والقوات الجوية ــ الفضائية، والقوات البحرية، وعناصر من لواء مشاة البحرية رقم 61 التابع لأسطول الشمال، وطالبات من الجامعة العسكرية التابعة لوزارة الدفاع الروسية، ومعهد الإمداد والتموين العسكري، وكذلك، طالبات من «أكاديمية بوديوني العسكرية للاتصالات» و«أكاديمية موجايسكي العسكرية الفضائية»، اللواتي شاركن في العرض العسكري للمرة الأولى. كذلك، سار في الساحة الحمراء فوجان من قوات الصواريخ الاستراتيجية، وقوات المظلات، ووحدة من الأكاديمية العسكرية للوقاية الإشعاعية والكيميائية والبيولوجية، وأخرى من حرس الحدود الموسكوفي التابع لجهاز الأمن الروسي، وعناصر من حامية موسكو، وطلبة الكرملين العسكريون.
وأما عرض الآليات العسكرية، فتقدمته، بعد دبابة «تي 34» التاريخية، العربات المدرعة من طراز «تيغرــ إم» و«تايفون ــ كا» و«تايفون ــ أو»، التي تشكل ركيزة لمهمات الجيش الروسي في سوريا، ومدرّعات «بي إم بي» التي توفّر الحماية والدعم الناري للمشاة، بالإضافة إلى مدرّعات «كورغانيتس-25» من الجيل الجديد. كذلك شاركت في العرض دبابات «تي-14 أرماتا» و«تي ــ 72بي3»، الأكثر تقدماً، وقطع مدفعية من طراز «كوآليتسيا ــ إس في» و«مستا ــ إس»، بالإضافة إلى منظومة «إسكندر» الصاروخية، ومنظومات الصواريخ المضادة للطائرات «بوك-إم2» و«إس-400 تريومف»، إلى جانب منظومة «يارس» ذات القدرات النووية، فيما اختتمت العرض «مدرّعة المستقبل» المعروفة باسم «بوميرانغ».
وكشفت روسيا في خلال العرض العسكري اليوم، للمرة الأولى عن نظاميها للدفاع الجوي «تور-إم» و«بانتسير إس إيه» باللونين الأبيض والأسود المميزين للقوات القطبية الروسية. وباستطاعة منظومة «بانتسر إس ايه» العمل في ظروف مناخية تصل إلى خمسين درجة تحت الصفر، فيما تستخدم منظومة «تور-ام» لحماية الوحدات والمنشآت العسكرية والبنية التحتية من الطائرات والمروحيات والطائرات من دون طيار والصواريخ الموجهة.
وبسبب سوء الأحوال الجوية، اضطرت وزارة الدفاع إلى إلغاء العرض الجوي، الذي كان من المفترض أن تشارك فيه نحو 72 طائرة ومروحية، بعضها شارك في عمليات محاربة الإرهاب في سوريا. وأوضح المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف أنّ «ثمة شروطاً أمنية حالت دون ذلك»، موضحاً أنّ «الغيوم كانت على ارتفاع 150 متراً، وبحسب معايير الحماية فإنّ الطائرات لا تستطيع القيام بطلعات استعراض جوي، إذا كانت الغيوم عند مستوى أقل من 500 متر».
الظروف المناخية لم تكن الوحيدة في تعكير صفو «عيد النصر»، فالمقاطعة الدولية للاحتفالات الروسية بهذه المناسبة، ما زالت مستمرة، ولعلها تأتي تأكيداً لشكوى روسيا من محاولات غربية لتزييف التاريخ، التي تنخرط فيها، إلى جانب الآلة الإعلامية الغربية، مراكز أبحاث غير مجهولة التمويل والأهداف، وهو ما تسعى روسيا إلى مواجهته، سنوياً، في التاسع من أيار.
ويبدو أنّ الهجوم الروسي المضاد على تشويه التاريخ قد حقق نتائج مرضية، وهو ما يكشفه على الأقل، أحدث استطلاع رأي، نشرته «مؤسسة الرأي العام» الروسية «أم أو أف»، الذي أظهر، على سبيل المثال، أنّ 50 في المئة من الروس ينظرون بنحو «إيجابي» إلى الدور الذي قام به الزعيم السوفياتي جوزيف ستالين، في الحرب العالمية الثانية، في ارتفاع بنسبة عشرة في المئة قياساً إلى استطلاع أجري في عام 2005، بالإضافة إلى 32 في المئة يعتقدون أن دوره كان «إيجابياً نوعاً ما»، في مقابل أقلية نسبتها 8 في المئة ترى دوره «سلبياً».