باريس | بالرغم من خروجه منتصراً في الجولة الثانية والأخيرة من انتخابات الرئاسة، يواجه الرئيس الفرنسي المنتخب إيمانويل ماكرون، وضعاً غير مسبوق في تاريخ الجمهورية الخامسة. فبالرغم من حصوله على 66.1 في المئة من الأصوات، إلا أنّ زعيم حركة «إلى الأمام» يواجه معضلة شائكة تتمثل في افتقاده قاعدة شعبية تكفل له الأغلبية البرلمانية.
وقد بيّن استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «Ipsos» أن 43 في المئة ممن زكّوا ماكرون للرئاسة قالوا إنهم فعلوا ذلك «اضطراراً»، بدافع قطع الطريق أمام اليمين المتطرف، بينما لم تتجاوز نسبة الذين قالوا إنهم صوتوا له تأييداً لبرنامجه السياسي الـ 16 في المئة فقط.
وأشار الاستطلاع أيضاً إلى أن 49 في المئة من الناخبين قالوا إنهم يرغبون في تزكية «حكومة مساكنة» في الانتخابات التشريعية التي ستجرى الشهر المقبل، أي منح الأغلبية لتيار سياسي آخر، غير حركة «إلى الأمام» وحلفائها. وهذا ما سيرغم ماكرون على تعيين رئيس حكومة من هذه الأغلبية، ومساكنته طوال السنوات الخمس المقبلة. إذا صدقت هذه التوقعات، فإنّ ماكرون سوف يدخل سجل الأرقام القياسية، لا بوصفه أصغر رئيس فرنسي منذ نابوليون الثالث (1808 ــ 1873) فحسب، بل أيضاً بوصفه رئيساً لن يحكم سوى شهر واحد، وهي الفترة التي تفصل بين انتخابات الرئاسة والانتخابات التشريعية. وفِي هذه الحالة، ستكون صلاحياته السياسية أقرب الى صلاحيات ملكة بريطانيا منها إلى صلاحيات رئيس فعلي بمواصفات الجمهورية الخامسة التي تكرّست منذ عهد الجنرال شارل ديغول.

سيكون الاستحقاق
التشريعي بمثابة جولة ثالثة
من الانتخابات الرئاسية

كان قد سبق لرئيسين فرنسيين أن عاشا تجربة المساكنة مع حكومة من المعارضة. فقد اضطر فرنسوا ميتران الى تعيين خصمه اللدود جاك شيراك، رئيساً للحكومة، عام 1986، إثر خسارة الحزب الاشتراكي في الانتخابات البرلمانية، وذلك بعد 5 سنوات من فوز ميتران بالرئاسة (كانت مدة الولاية الرئاسية آنذاك 7 سنوات). ثم واجه جاك شيراك بدوره وضعاً مشابهاً، إذ اضطر إلى تعيين الاشتراكي ليونيل جوسبان، رئيساً للحكومة، عام 1997، إثر مجازفة شيراك بحلّ البرلمان، وإقامة انتخابات تشريعية مسبقة بغية التخلص من أنصار خصمه إدوار بالادور، في صفوف الحزب الديغولي. لكنّ السحر انقلب على الساحر، وفقد اليمين الأغلبية البرلمانية لحساب الحزب الاشتراكي.
كل المؤشرات تتجه نحو تكرار سيناريو المساكنة، لأن الرئاسة الماكرونية الحالية ولدت من دون أغلبية. ففي ظل ارتفاع نسبة الامتناع عن التصويت إلى نسبة قياسية تجاوزت 34 في المئة (25.4 من المقاطعين و8.6 في المئة من الأوراق البيض)‏، لم تعد نسبة الـ 66.1 في المئة التي نالها ماكرون في الجولة الثانية من انتخابات الرئاسة تمثل سوى 43.6 في المئة من العدد الإجمالي للناخبين.
كان لافتاً أيضاً أنّ نسبة الـ 33.9 في المئة من الأصوات التي نالتها مارين لوبن لا تمثل بدورها سوى 22 في المئة من مجموع الناخبين. ويمكن فهم ميزان القوى هذا بشكل أكثر وضوحاً، إذا ما نُظِر إلى الأمور من حيث عدد الأصوات. فقد فاز ماكرون بالرئاسة بفضل 20.7 مليون صوت، في مقابل 10.6 ملايين صوت لمارين لوبن. بينما بلغت أصوات معسكر «الامتناع» 16 مليوناً (12 مليوناً مقاطعاً للاقتراع و4 ملايين أدلت بأصوات بيض). وهو ما دفع زعيم «فرنسا المتمردة» جان لوك ميلانشون، إلى القول في خطاب «التهنئة» الذي ألقاه بعد فوز ماكرون، إنّ «لوبن حلت في المرتبة الثالثة في هذه الجولة الثانية، بعيداً وراء معسكر المقاطعة»، داعياً هؤلاء إلى إقامة «جبهة اجتماعية» لمنع حصول ماكرون على الغالبية البرلمانية.
هذه «الجبهة الاجتماعية» سرعان ما التأمت في تظاهرة معادية لماكرون، نظّمها في ساحة «ريبوبليك» في باريس ظهر أمس، ائتلاف من 70 فصيلاً نقابياً من مختلف التوجهات، تعبيراً عن استعداد النقابات لرفع رهان التصدي لما لوّح به ماكرون خلال حملته الانتخابية (ثم تراجع لاحقاً) بخصوص إمرار حزمة من المراسيم الرئاسية قبل موعد الانتخابات التشريعية، بهدف مباشرة ما سماه حركته الإصلاحية. وهو ما رأت فيه النقابات محاولة للالتفاف على البرلمان لإمرار ما عجز عنه هولاند طوال خمس سنوات، بخصوص تعديل قوانين العمل.
وتشكّل تظاهرة «ريبوبليك» سابقة ستبقى ماثلة في الأذهان، حيث يُعدُّ ماكرون أول رئيس فرنسي تُقام ضده تظاهرة نقابية بهذا الحجم، بعد أقل من 24 ساعة على انتخابه.
في ظل كل هذه المؤشرات التي تؤكد افتقاد ماكرون وحركته للأغلبية، سوف تكون الانتخابات التشريعية المقبلة بمثابة «جولة ثالثة» من انتخابات الرئاسة. والأرجح أن يسعى خلالها الحزبان الرئيسيان في البلاد، «الاشتراكي» و«الديغولي»، إلى الأخذ بثأرهما من «الظاهرة الماكرونية» التي تسببت في إقصائهما منذ الجولة الأولى لانتخابات الرئاسة.
ويجمع الخبراء على أنّ التيار «الديغولي» (أي حزب الجمهوريين) سوف يسجّل عودة قوية في البرلمان المقبل، وذلك بعدما تخلّص من عبء فرنسوا فيون، وفضائحه المالية التي تسببت في خسارة الحزب في الاقتراع الرئاسي. أما على اليسار، فتُثار تساؤلات كثيرة حول مدى قدرة «الحزب الاشتراكي» على تحقيق «ريمونتادا» مماثلة، وخاصة أن مشاكل «الاشتراكي» بعد انتكاسة مرشحه الرئاسي بنوا هامون، المدوّية، لن تقتصر فقط في الصراعات التقليدية بين مختلف أجنحته، بل سيواجه الحزب «نزفاً» حقيقياً من النواب الذين سيغادرون صفوفه للترشح تحت لوائح ماكرون.
مشاكل الاشتراكيين ستجعلُ الرهان متركزاً على جان لوك ميلانشون، في المعركة من أجل غالبية يسارية في البرلمان المقبل. زعيم «فرنسا المتمردة» لن يكتفي بالقاعدة الواسعة التي صوّتت له في الجولة الرئاسية الأولى (7 ملايين صوت)، بل يراهن أيضاً على استمالة غالبية الممتنعين (16 مليون صوت). إلا أنّ ذلك قد لا يكون كافياً لتحقيق الأغلبية من مجموع 47 مليون ناخب. ولذا، يُرتقب أن تشهد حملة الانتخابات التشريعية صراعاً محموماً بين «فرنسا المتمردة» و«الجمهوريين» من أجل استقطاب الفئات التي صوّتت لماكرون «اضطراراً»، والتي تمثّل مخزوناً ضخماً يُقدّر بنحو 8.9 ملايين ناخب. وبالتالي، هؤلاء هم الذين سيلعبون دور الحكم في ترجيح الكفة بين اليمين واليسار في البرلمان المقبل، لتكون الأغلبية من نصيب التيار السياسي الذي سينجح في استقطاب أكبر عدد منهم.